بين الإنسان والإنسان
كأنك فجأة تطأ أرضًا لم تعرفها من قبل، أرضًا تمتد بين وديان الرافدين وقمم جبال الأندلس، حيث تتقاطع الحضارات وتتماوج الثقافات.
قبل قرون، خرج الفلاسفة والمفكرون من المدن الإسلامية، يحملون علومًا لم يعرفها الغرب بعد.
علومًا تمتد إلى الروح والعقل، ومعارف تتجاوز الحدود واللغات. لم تكن العلوم مجرد أدوات، بل كانت نصوصًا تُقرأ وتُحلل، ومدارس تُؤسس، وتجارب تُمارس، وكأن الزمن نفسه توقف ليستمع.
فى بغداد، جلس العلماء فى بيت الحكمة، من الكندى إلى الخوارزمي، يجمعون بين الفلسفة والرياضيات والفلك والطب.
تعرف الغرب على هذه العلوم عبر الأندلس وصقلية، من خلال ترجمات قام بها علماء مثل جيرارد الكريمونى فى طليطلة، الذى ترجم أكثر من 80 كتابًا من العربية إلى اللاتينية، من بينها أعمال ابن سينا وابن الهيثم، ليصبح جسرًا لنقل المعرفة إلى أوروبا.
ثم جاءت الترجمات التى قام بها علماء مثل روبرت أوف تشيستر فى القرن الثانى عشر، الذى ترجم كتاب الخوارزمى عن الجبر، مما أدخل هذا العلم إلى أوروبا.
هذه الترجمات فتحت الباب على مصراعيه أمام العقل الأوروبى لمعرفة أساليب جديدة فى حل المسائل الرياضية والفلكية، وتجاوز الأساليب اليونانية القديمة.
بعدها، وصلت إلى الأندلس والمغرب البعثات الأوروبية، حيث كانت الحضارة الإسلامية فى أوج ازدهارها.
رحالة ومفكرون مثل أديلارد أوف باث، وهو عالم إنجليزى فى القرن الثانى عشر، سافر إلى صقلية وأنطاكية وتعلم العربية ليدرس العلوم والفلسفة.
لقد أدرك أن قوة المعرفة تكمن فى فهمها قبل فرضها، وأن الانفتاح على الآخر هو طريق التقدم.
وفى الهند، أخذ علماء مسلمون مثل الخوارزمى وأبو معشر البلخى من العلوم الهندية، خاصة فى الرياضيات والفلك، ونقلوها إلى العالم الإسلامي.
كانت هذه المعرفة تشكل حلقة وصل بين ثقافات مختلفة، مؤكدة أن العقل والمعرفة جسور تربط الشعوب.
وفى أوروبا، عمل كوبرنيكوس على دراسة الفلك، متأثرًا بشكل مباشر بأساليب العلماء المسلمين.
على سبيل المثال، اعتمد كوبرنيكوس على أساليب رياضية طورها علماء من مرصد مراغة فى إيران، مثل نصير الدين الطوسي، فى بناء نظريته حول مركزية الشمس.
هذه المعارف فتحت طرقًا جديدة للبحث العلمى والفلسفي، وبذرت العقلانية فى تربة لم تعرفها من قبل.
لم تقتصر الرحلات على نقل العلوم، شملت أيضًا الفكر والفلسفة. فى القرون اللاحقة، أثّر ابن خلدون، بفلسفته الاجتماعية وعلم العمران، على مفكرين غربيين لاحقين. كتابه «المقدمة»، الذى لم يترجم بالكامل إلى اللاتينية إلا فى القرن التاسع عشر، أرسى دعائم علم الاجتماع الحديث. فقد أدرك مفكرون لاحقون أهمية تحليل الظواهر الاجتماعية بشكل منهجي، مما أثر فى نظرتهم إلى التاريخ والمجتمعات.
وفى القرن التاسع عشر، ظهر مفكرون مسلمون تأثروا بالحداثة الغربية، مثل رفاعة الطهطاوى الذى أرسلته مصر إلى باريس فى بعثة تعليمية. عاد الطهطاوى ليقدم فى كتابه «تخليص الإبريز فى تلخيص باريز» صورة عن التقدم الغربى لا كعدو، بل كنموذج يمكن الاستفادة من علمه ومنجزاته، دون التنازل عن الهوية.
تأسست مدارس وجامعات فى باريس وأكسفورد وليدن لتعليم اللغات الشرقية والعلوم الفلسفية. هنا ظهر مفكرون مثل سيلفستر دى ساسى فى فرنسا، الذى أسس علم الاستشراق الحديث، وعلماء مثل توماس أرنولد، الذى كتب عن الدعوة الإسلامية بأسلوب أكثر موضوعية، مؤكدين أن الحضارات تحمل قيمًا علمية وفكرية مهمة، وأن التقدم لا يقتصر على حضارة واحدة.
وفى العصر الحديث، ظهر مفكرون مثل محمد إقبال، الذى درس فى أوروبا، وكتب عن تجديد الفكر الإسلامي، مؤكدًا أن الحضارات يمكنها أن تتلاقى، وأن المعرفة ليست حكرًا على شعب أو زمن، وأن الحوار بين الثقافات هو أساس الفهم المتبادل والتقدم الإنساني.
وهكذا، استمرت الحضارة فى السير بلا حدود، بأقدام الكتب والأفكار، تزرع بذور الوعى والفهم، وتبنى جسورًا بين الإنسان والإنسان، بين ما يُعرف وما يُساء فهمه.



