الخميس 4 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
جسر بين الشرق والغرب

جسر بين الشرق والغرب

فى عام 1956، أسس العالم الصينى تشيان شيوهسن «الأكاديمية الخامسة» التابعة لوزارة الدفاع الوطنى، وكان هو أول مدير لها. فقد كان هذا الكيان المهد الذى انطلقت منه طموحات الصين الفضائية.



وبحلول عام 1960، أثمرت الجهود. فقد أطلقت الصين أول صاروخ حربى لها «دونجفنج 1» بأيدى أبنائها وتقنيتها الخاصة فقط. حيث تعد تلك الخطوة صغيرة فى أعين العالم، لكن بالنسبة للصينيين كانت قفزة نحو العصر الحديث. وسرعان ما أنتجت الصين «دونجفنج 2»، الذى كان له القدرة على حمل رأس نووي. فبذلك أثبت تشيان أن العجرفة الأمريكية التى حرمته من مقعد مجالس الدفاع، صار اليوم يعيد تشكيل التوازن الاستراتيجى فى آسيا.

لم تكن رؤية «تشيان» محصورة فى الأسلحة. فمنذ البداية، كان يحلم بالفضاء. جادل بأن الأقمار الصناعية ليست رموزًا للهيبة فقط، بل أدوات للاتصالات والتنبؤ بالطقس والبحث العلمي. وأقنع القيادة السياسية - آنذاك - أن الفضاء جبهة لا بد للصين من اقتحامها.. هكذا وُلد برنامج الفضاء الصينى بسواعد أبنائها ومن لا شيء يذكر.

وبالفعل فى 1970، بعد سنوات من المحاولات والإخفاقات فى الإطلاق، وندرة الموارد، وعزلة دولية، ارتفع الحلم إلى السماء. فانطلق أول قمر صناعى صينى «دونج فانج هونج 1»، الذى حلق فى المدار المخصص له. وبينما كان يطوف حول الأرض، أذاع نشيد «الشرق أحمر» - وهو أغنية ثورية صينية كانت النشيد الوطنى الفعلى لجمهورية الصين الشعبية خلال فترة الثورة الثقافية. فمثل ذلك إشارة للعالم الغربى وأمريكا أن الصين دخلت عصر الفضاء بقوة. وكان ذلك بالنسبة للصينيين أكثر من إنجاز تقنى؛ كان لحظة فخر، برهانًا أن الأمة التى لطالما استضعفها الاستعمار تستطيع أن تصل إلى النجوم.

وخلال السبعينيات  والثمانينيات، ظل تأثيره عميقًا. فقد خرج أجيالًا من العلماء الذين واصلوا عمله، وطوروا صواريخ متقدمة، ووضعوا أسس الرحلات المأهولة. وكان طلابه يتحدثون عن صرامته، ورقّته، وإصراره الذى لا يلين على التميز. بالنسبة لهم، لم يكن مجرد معلم، بل أبًا لتخصص بأكمله.

ومع مرور العمر وانحناء جسده، بقى عقله مضيئًا. غاص فى الفلسفة والثقافة، وفى دمج العلم بالقيم الإنسانية. كتب عن الإبداع، وعن نظرية النظم، وعن وحدة المعرفة، باحثًا عن الأنماط التى تصل بين التقنية والحياة نفسها.

ورغم كل هذه العظمة، ظل تشيان متواضعًا فى حياته الشخصية. رفض معظم مقابلات الإعلام الأجنبى، نادرًا ما سافر، وغالبًا ما آوى إلى عزلته للبحث والتأمل. عاش حياة بسيطة مع زوجته «جيانج يينج»، المغنية الأوبرالية الموهوبة التى درست فى أوروبا. كان زواجهما مزيجًا من العلم والفن، من العقل والثقافة، ومعًا ربّيا أبناءً وأحفادًا جعلوا من حياته الاستثنائية أكثر رسوخًا فى دفء العائلة.

لقد كان مسار حياته أقرب إلى ملحمة ثورية فى اتساعها، شابًا صاغته الصين القديمة، ومغترب أتقن علوم الغرب، وضحية للريبة الأمريكية، وعائدًا أعاد رسم مصير وطنه. كان رجل معادلات ورجل رؤى.

وفى النهاية، لم يكن تشيان مجرد «أب البرنامج الفضائى الصيني»، بل كان جسرًا بين الشرق والغرب، بين الماضى والمستقبل، بين العلم والفلسفة، بين الكون الخارجى والحياة الداخلية للعقل. إرثه لم يكن فقط صواريخ فى السماء، بل أيضًا دعوة لكل جيل، أن الإنسان لابد أن يحلم وأن يبنى وأن يبدع وألا يتنازل أبدًا عن الإيمان بأن المعرفة، إذا ما قادتها الرؤية، قادرة على تغيير مصير أمة.