الخميس 20 نوفمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

مأساة نجيب سرور

رحلة اكتشاف حكماء «ريش»

أكتب هذه الحكايات والذكريات من الذاكرة واعتمادا على بعض ما أمكن جمعه من مواد وصور، وأترك لنفسى حرية التجوّل فى دوائر الذكرى دون تخطيط مسبق حتى أشعر براحة ومتعة لا تحققها عملية التوثيق الأرشيفية ولا يتحقق معها للقارئ ذلك الشعور بالمتعة والمؤانسة.



ومع أن الحكايات والومضات تتزاحم فى رأسى، ومع أن بعض الأسماء تختفى من شريط الذاكرة بفعل التقادم، وتشابك الأحداث والوقائع والشخصيات والمشاعر، فإن ما يهمنى أكثر هو جوهر كل حكاية أو ومضة أو واقعة.

 

 

 

 

هو نفسه تجسيد لمأساة حية لا نجد لها مثيلا فى الحياة الثقافية والفنية فى مصر..

جمعتنى به صداقة وطيدة منذ سنة 1964 فى مقهى «ريش» لدى عودته من رحلة منحة لدراسة الإخراج المسرحى فى موسكو انتهت بسحب الحكومة للمنحة بعد مكيدة من زملاء، انتقل بعدها مشردا إلى المجر ومنها إلى المغرب قبل العودة إلى مصر..

 وأعتقد أن صداقتنا قامت على إعجابى بمواهبه المتعددة الشعر والنقد والتمثيل والإخراج وتأليف المسرحيات وتدريس المسرح.

ومن جانبه كان يرى فى الشاب المتطلع للمعرفة والمحب للفنون والذى – وهذا هو الأهم - لا يثير معه المعارك كما كان يفعل آخرون مثل أمل دنقل وغيره.

 

 

 

وقد اطمأن لى بشكل خاص، ما جعله يروى لى تفاصيل دقيقة عن حياته منذ طفولته كفلاح ابن فلاحين يعملون لدى أحد الإقطاعيين.. والوقوع فى حب بنت هذا الإقطاعي، وحبها له وافتتانها به كشاب وسيم، قوى البنية يشبه نجوم السينما، ومثقف وطموح.. ينطوى على مشاعر رقيقة وحساسية عالية.. وله مستقبل. 

وما أن علم والدها الاقطاعى بحكايتهما حتى بدأ فى عزل بنته أولا ثم اضطهاد هذا الولد الفلاح، ليس هذا فقط بل إنه تعمّد إهانة والد نجيب سرور وضربه وطرده وبقية العائلة من العمل.. فتعرّضوا للتشرد وهم الفقراء الذين يرتزقون من العمل فى أرض هذا الرجل..

المعاناة

عاش الشاب نجيب مأساة رهيبة.. فقد تحوّلت قصة حبه البريئة إلى معاناة له ولأبيه وكل عائلته من الضرب إلى الطرد إلى التشرد.

وضعت هذه المأساة صديقى على أول الطريق نحو فهم الواقع والصراع الطبقى والاستغلال.

وبدأ يفكر ويقرأ ويصمّم على مواصلة التعليم العالى.. وكان قراره هو الالتحاق بكلية الحقوق لدراسة القانون ومحاربة الخارجين عليه.

لكنه فى السنة الرابعة وجد أن ميوله تغيّرت فاتجه إلى دراسة المسرح، الذى رآه الوسيلة الأقوى فى التعبير عن أفكاره المناهضة لكل عدوان على الحق.. والكاشفة لكل مظاهر الفساد.

وكما نرى فإن مأساة نجيب سرور هى التى كانت تقوده فى مسيرة حياته.

ولا أعرف إن كان هو قد حكى مأساته هذه لغيرى.. فقد لاحظت أن النقاد عندما تناولوا مسرحياته التى كان يكتبها شعرا ويقوم بإخراج بعضها ويشارك فى تمثيلها.. انشغلوا بمدى استلهامه الفولكلور المصرى أو مجرد الإيهام به، لكن أحدا لم ينتبه إلى ملحوظة مهمة هى أن نجيب سرور فى معظم مسرحياته، وخاصة المستمدة والمعتمدة على الأساطير الشعبية، كان فقط يعكس مأساته التى عاشها منذ المراهقة.. بينما لا علاقة لها حقيقة بالفن الشعبى.

ولنقرأ ما كتبه عنه ناقد مهم هو فاروق عبد القادر: أما نجيب سرور فقد كان شيئا مختلفا..كان عاصفة اندفعت إلى قلب الحياة المسرحية والثقافية منذ عاد من تسكعه الطويل فى موسكو وبودابست، وبكل ما حمل فى عقله وقلبه من خير وشر.

 

 

 

لقد ترك نجيب خمس نصوص مسرحية منشورة «ياسين وبهية» 1965 و«آه ياليل يا قمر» 68 و«يا بهية وخبريني» 69 و«قولوا لعين الشمس» 70 و«منين أجيب ناس» 75.

وكلها تتناول المعانى التى تشير لانعدام العدالة والحرية وتكشف الفساد والاستعباد وتنطوى على قصة حب إنسان لإنسانة يسميها بهية ونشاهدها فى كل هذه المسرحيات نقريبا!

البطل نفسه

ونكاد فى بعض مسرحياته نشاهد البطل ياسين - وهو نجيب سرور نفسه - فهو يريد التعبير عن نفسه وعن مأساته التى حكمت حياته.. فقد شاهد فى طفولته أباه وهو يضرب ويهان من جانب صاحب الأرض التى يعمل فيها.. ولتفوقه الدراسى حصل على منحة حكومية لكن زملاءه المبعوثين وشوا به واتهموه بالعداء للدولة والثورة فسحبت منه المنحة، فبدأ يعيش حياة شاب تضطهده سلطات بلاده بينما هو خارج الوطن يسعى لمواصلة دراسته العليا..

ولنتصور مقدار العنف والأذى النفسى الذى وقع عليه ومدى تحوّل المنحة إلى محنة.. ما زاد من إصراره على موقفه المعارض والكاشف لبعض عيوب النظام.

ولأنه لم يجد مساندة كافية ممن نتوخى فيهم حماية ورعاية المواهب الشابة من أجل ازدهار الوطن، فقد عاش معذبا مقهورا شبه ضائع إلى أن ناشد الناقد رجاء النقاش والشاعر أحمد عبد المعطى حجازى أجهزة الدولة مطالبين بانتشال نجيب سرور من مأساته وإعادته إلى حض الوطن.. وهو ما حدث بالفعل سنة 1964.

 لكن السلطات اشترطت عدم دخول زوجته وابنه!

فظلت المأساة قائمة.. 

وروى لى نجيب سرور حكايته وكيف أن بعض المثقفين زايدوا عليه لدى السلطات ليفوزوا بمغانم شخصية.

وفى جلسة صفاء على مقهى «ريش» الذى جمعنا.. حيث كنا نلتقى أسبوعيا فى صالون نجيب محفوظ..كل يوم جمعة، ونتواجد فى المكان وهو مقهى ومطعم ومركز تجمع للمثقفين والأدباء والشعراء والنقاد والصحفيين.. قال لى وهو يسترسل فى حكايته الغرامية المأساوية أن حبيبته التى حرم منها أصبحت الآن إحدى نجمات مذيعات التليفزيون وأعطانى اسمها بشرط حفظ هذا السر.

وتم تعيينه مدرسا فى معهد المسرح فواصل العمل إلى أن فصل بعد سنتين بوشاية تحرّك لها صلاح نصر وأعوانه، فقاموا باعتقاله بتهمة الشيوعية والتحريض ضد النظام، وتفنن صلاح نصر ورجاله فى تعذيب نجيب بكل الأساليب المعروفة والمبتكرة من جلسات الصعق الكهربائى إلى عمليات تحطيم الكيان النفسى إلى الضرب المبرح..

لكن كل ذلك لم يفت فى عضد صاحبنا بل أنه أصبح عصيا على التنازل عن مبدئه فى محاربة وفضح كل جرائم العدوان على الحريات ومحاربة الفساد ليس فقط فى أجهزة الدولة ولكن بين أوساط المثقفين. 

ونظرا لقوة شكيمته رغم التعذيب والإهانة تركه صلاح نصر فواصل إبداعه شاعرا وناقدا ومؤلفا مسرحيا ومخرجا.

علامة فارقة

وبينما كان كتابه «رحلة مع ثلاثية نجيب محفوظ» علامة فارقة فى النقد الأدبى الرصين رفيع المستوى.. يضرب به المثل حتى الآن فى دوائر الأدب والنقد مصريا وعربيا.. جاء ديوانه «حكماء ريش» ليكشف عن مهازل وفضائح وجرائم يرتكبها بعض المثقفين فى حق الحقيقة والوطن والناس والثقافة نفسها.

ولعلنا نتوقف هنا لنشير إلى أن نجيب سرور الفنان الشاعر والناقد والممثل كان صاحب مبادرة غير مسبوقة فى حياتنا الثقافية فى مصر هى كشف وفضح بعض المثقفين أو بالأحرى مدعى الثقافة واتهامهم بالإجرام والعداء للثقافة ذاتها.

أريد أن أستعيد هنا بعض ملامح شخصية هذا الإنسان المأساة.

فأتذكر كيف أنه كان يتفرد بين من عرفناهم من الشعراء بأنه أولا يحفظ أشعاره عن ظهر قلب ولا يقرؤها من الورق أو الدواوين كغيره.. والأهم أنه كان يعيش هذه القصائد ويقوم بتجسيدها وتمثيلها أمامنا، بتفوق يعود إلى موهبته الكبيرة كممثل. 

ولا أنسى أن المعارك الكلامية التى كان يخوضها مع بعض منتقديه ومنافسيه فى حلبة الشعر والأدب، كانت دائما ما تنتهى إلى خناقات وضرب وعراك بدنى لا يليق بالأدباء والشعراء.. وكنت ألاحظ أن نجيب سرور الذى يتمتع بقوة بدنية لا تتوفر لدى معاركيه.

كان شديد التحفظ فى اشتباكاته البدنية مع الآخرين خوفا من أن تتسبب قوته فى أذى جسمانى كبير لمن يثير حفيظته ويخانقه..

 التقيت نجيب لآخر مرة مصادفة فى محطة الرمل فى الإسكندرية صيف 1974على ما أتذكر.

كان يسير فى حالة توهان بلا هدف، ويرتدى ملابس مبهدلة.. وعندما جاءت عينى فى عينه وجدته ينظر فى الاتجاه الآخر محاولا تفادى وجودى وتجاهلي، لكن بعد لحظة وكنت مشدودا إليه أراقب سلوكه الغريب، إذا به يعود إلى ويتدارك محاولة تجاهلى..

ويقول لي: هم المجانين ولست أنا..أنا نجيب سرور!

 يبدو أنه أعاد التفكير فى سلوكه وشعر بأنه فى حاجة إلى الحديث مع إنسان يحبه ولا يناكفه.

أخبرنى وقتها أنهم – يقصد السلطات التى تطارده منذ عشر سنوات من سنة 1964- أودعوه مستشفى الأمراض العقلية فى الإسكندرية، وسحبوه من مستشفى العباسية بعد إصرار الأطباء هناك على أن لا مكان له عندهم فهو فى تشخيصهم ليس مصابا بأى نوع من الأمراض العقلية أو النفسية: ألم أقل لك إنهم هم المجانين وليس أنا.. أنا أعبر عن آراء وأتمسك بحريتى.. فهل هذا جنون؟!

وحكى لى أنهم نقلوه إلى الإسكندرية بعيدا عن أصدقائه دكاترة العباسية.. 

آخر كلمات نجيب سرور لى كانت:

= ما تقلقش علىّ!

لكنه رحل عن 46 عاما بعد ذلك بـ 4 سنوات فى مستشفى أمراض عقلية فى دمنهور. وخسرنا موهبة عبقرية.

وفى الأسبوع المقبل نواصل