الأربعاء 12 نوفمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

جثة فى سرداب كنيسة!

ما إن يذكر الأدب الإسبانى، حتى تظهر شخصية نادرة تركت أثرًا خالدًا، وألهمت الأجيال، ميجيل دى ثيربانتس سابيدرا. حياته وأعماله الأدبية شكلت أساس الأدب الإسبانى فى العصر الذهبي، وتجاوزت حدود بلاده لتصبح مصدر إلهام للأدب العالمي. فى زمن تألقت فيه إسبانيا ثقافيًا وسياسيًا، وُلد ثيربانتس ليكون شاهدًا ومساهمًا فى هذا العصر، حياة مليئة بالتحديات والمغامرات انعكست فى أعماله التى جمعت بين الخيال والواقع، والسخرية والجدية، لتقدم صورة كاملة عن المجتمع الإسبانى فى ذلك الحين.



وُلد ميجيل دى ثيربانتس فى 29 سبتمبر 1547م، بمدينة ألكالا دى إيناريس قرب مدريد، الرابع بين سبعة إخوة فى عائلة ترجع أصولها إلى طبقة النبلاء البسيطة، لكنها كانت تمر بضائقة مالية. 

والده رودريجو دى ثيربانتس كان ممارسًا طبيًا متنقلًا بين المدن طلبًا للعيش، يجيد تجبير العظام والاهتمام بالاحتياجات الطبية الأساسية، تجربة أثرت فى حياة ابنه وأضافت عمقًا لأعماله الأدبية المستقبلية.

شغف ميجيل بالقراءة بدا واضحًا منذ الصغر، ويُعتقد أنه تلقى بعض التعليم فى مدارس دينية، ما ساعد فى تشكيل وعيه الأدبى والثقافى. 

رغم غياب التعليم الجامعي، كان شغفه بالكتب عظيمًا، وأشار مدير مدرسة فى مدريد يُدعى خوان لوبيز دى هويوس إلى ثيربانتس باعتباره «تلميذه المحبوب» عام 1569م .

 فى تلك الفترة نشر أولى قصائده عن وفاة الملكة إليزابيث فالوا.

خاض ثيربانتس الحياة العسكرية، ففى عام 1569م اضطر إلى الهرب من إسبانيا واللجوء إلى إيطاليا، بعد تورطه فى حادث جرح أدى إلى إصدار مذكرة توقيف بحقه. هناك انضم للأسطول الإسبانى الذى كان يحارب الأسطول التركى العثمانى فى البحر الأبيض المتوسط. فى معركة ليبانتو البحرية عام 1571  أصيب بجروح بليغة فى صدره وذراعه اليسرى، وأدى ذلك إلى شلل دائم، ومن هنا عُرف بـ «الأبتر من ليبانتو».

منحوتة لميجيل دي ثيربانتس فى دير الآباء الثالوثيين حفاة الأقدام مدريد.. حيث مدفنه
منحوتة لميجيل دي ثيربانتس فى دير الآباء الثالوثيين حفاة الأقدام مدريد.. حيث مدفنه

 

 استمر فى الخدمة العسكرية حتى عام 1575م، عندما وقع أسيرًا فى قبضة قراصنة البربر بالجزائر، وقضى هناك خمس سنوات، تجربة أمدت رواياته المستقبلية بعمق فريد، مستقيًا منها الكثير من تفاصيل الحياة وقصص السجناء، ما انعكس على شخصياته وتعقيداتها النفسية.

أُطلق سراحه بعد دفع فدية من الجماعات الكاثوليكية عام 1580، وعاد إلى وطنه. التحديات المالية لم تتوقف، فحاول دون جدوى الحصول على منصب إدارى فى الإمبراطورية الإسبانية بأمريكا. فى تلك الأثناء أقام علاقة مع امرأة متزوجة تُدعى آنا دى فيلافرانكا، نتج عنها ابنته الوحيدة إيزابيل دى سافيدرا. فى عام 1584م، تزوج من كاتالينا دى سالازار إى بالاسيوس، أصغر منه بثمانية عشر عامًا. عمل فى وظائف حكومية منها محصل ضرائب، حياة شاقة مثقلة بالديون، اضطر للاستدانة، سُجن أكثر من مرة لعجزه عن السداد عام 1597، وأثناء توليه مهمة الإشراف على تمويل الأسطول الإسباني، سُجن مجددًا فى إشبيلية، وهناك بزغت فكرة روايته الأعظم، «دون كيخوته دى لا مانتشا»، تجربة فتحت أمامه آفاقًا أوسع للخيال.

عام 1585، نشر روايته الأولى «لا جالاتيا»، عن قصص حب بين الرعاة وتأملات فى الجمال والطبيعة، لكنها لم تحقق النجاح المرجو. 

اتجه إلى كتابة المسرحيات، وادعى أنه كتب ما يقرب من 20 إلى 30 مسرحية، نجحت اثنتان فقط، المأساة التاريخية «لا نومانسيا» والمسرحية «إل تراتو دى أرخيل».

 شغفه بالأدب استمر فى الكتابة، ممهدًا الطريق لولادة عمله الأعظم.

بين عامى 1605 و 1615، نشر «دون كيخوته دى لا مانتشا» على جزأين، وسرعان ما حققت نجاحًا باهرًا، لتصبح أعظم الأعمال الأدبية فى التاريخ، وأحد أكثر الكتب مبيعًا على مر العصور، ترجمت إلى معظم لغات العالم. الرواية تحكى قصة ألونسو كيخانو، رجل نبيل قارب الخمسين، مهووس بكتب الفروسية حتى فقد عقله، وقرر أن يصبح فارسًا رحالًا، متخذًا اسم «دون كيخوته دى لا مانتشا».

 

ريشة: مها أبوعمارة
ريشة: مها أبوعمارة

 

 ارتدى درعا قديمة، واعتلى حصانه «روسينانته»، وخرج للبحث عن المغامرة، رافقه جاره سانشو بانثا، حاملًا درعه مقابل وعد بمنحه حاكمية جزيرة، وصدقه سانشو بسذاجته.

«دون كيخوته» أول رواية أوروبية حديثة، فتحت الطريق لتطور السرد الروائى بأسلوب واقعى ونقدي، وابتعدت عن التقاليد الأدبية السابقة. 

من خلالها قدم ثيربانتس نقدًا ساخرًا للمجتمع الإسبانى وروايات الفروسية، مزج الفكاهة بالعمق الفلسفي، وتناولت مأساة العبودية، وذكرت العالم الجديد فى الأمريكيتين، ما يعكس وعيه بالأحداث العالمية فى عصره. 

الجزء الثانى من الرواية نُشر عام 1615، كان ردًا مباشرًا على نسخة مزيفة من الرواية فى العام السابق، ووسع من آفاق الرواية وأظهر قدرة ثيربانتس على تطوير شخصياته.

إبداعاته لم تقتصر على «دون كيخوته»، فقد أضاف للمكتبة الأدبية أعمالًا متنوعة بين الرواية والشعر والمسرح. 

عام 1613، قدم مجموعته القصصية «القصص النموذجية»، قصص قصيرة تكشف مهارته فى السرد وقدرته على تصوير المجتمع الإسبانى بمختلف طبقاته. عام 1614م، كتب قصيدة ساخرة بعنوان «رحلة إلى بارناس»، انتقد فيها الشعراء المعاصرين. رغم شهرته الكبيرة، لم يحقق ثروة من بيع حقوق النشر، واضطر للاعتماد على رعاية النبلاء مثل كوندى دى ليموس لتحسين وضعه المادي، مع طموح دائم للحصول على مكانة مرموقة فى الأدب الإسبانى تضاهى كبار الشعراء فى عصره.

آخر أعماله كانت «أعمال بيرسيليس وسيخيسموندا»، رواية مغامرات نشرت بعد وفاته، كتب إهداءها الأخير قبل أربعة أيام من رحيله، ووقعه قبل الوفاة بيومين، وافتتحه بعبارات مؤثرة قال فيها: «وقد وضعت قدمى فى الركاب، مع شوق الموت، أيها السيد العظيم، أكتب إليك».

 

أول رسم توضيحى لرواية «دون كيخوته» لجوستاف دوريه
أول رسم توضيحى لرواية «دون كيخوته» لجوستاف دوريه

 

عام 2015، أعيد اكتشاف رفات الكاتب الإسبانى فى سرداب كنيسة دير ترينيتارياس بمدريد. 

فريق من علماء الآثار والأنثروبولوجيا وخبراء الطب الشرعى قاد المهمة، وعثر على صندوق خشبى صغير كُتب عليه الأحرف الأولى من اسمه «M.C.»، بالإضافة إلى رفات متفرقة لما لا يقل عن 15 شخصًا، بينها رفات ثيربانتس وزوجته.

 استنادًا إلى الأدلة التاريخية والأثرية مثل عمر العظام وبقايا الملابس، أكد الفريق أن بعض العظام تعود إلى ثيربانتس وزوجته، لكنه أشار إلى أن اختبارات الحمض النووى لن تسفر عن نتائج ملموسة لعدم وجود أحفاد.

فى قبو دير ترينيتارياس استراح ميجيل دى ثيربانتس أخيرًا فى أبريل 1616، تاركًا إرثًا أدبيًا خالدًا، أعماله تُقرأ وتُدرّس فى الجامعات والأوساط الثقافية.

 أصبح رمزًا للعصر الذهبى الإسباني، الفترة التى شهدت ازدهارًا ثقافيًا وأدبيًا غير مسبوق، تأثيره على اللغة الإسبانية عميق، حتى أُطلِق عليها لقب «لغة ثيربانتس»، وأُطلقت جائزة أدبية باسمه تُمنح سنويًا للإنجازات الأدبية فى العالم الناطق بالإسبانية، وصورته وضعت على القطع المعدنية من عملة اليورو تكريمًا له.

مات فقيرًا ومعدمًا عن عمر 68 عامًا، ولم يتذوق طعم الشهرة التى نالها بعد ذلك، سيرته تظهر أن الأدب العظيم يخرج من رحم التجربة الإنسانية العميقة، وأن الخيال قادر على تحويل الواقع المرير إلى عوالم ساحرة تُلهم الأجيال.

 ويظل  ثيربانتس أيقونة الأدب الإسبانى والعالمي، رمزًا للقدرة البشرية على تحويل الألم والمعاناة إلى إبداع خالد يتجاوز حدود الزمان والمكان.