الخميس 13 نوفمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
أبو الفضاء الصينى

أبو الفضاء الصينى

تُعرف الصين بـ «التنين الأحمر»، وهو لم يكن مجرد كائن أسطورى فى الثقافة الصينية، بل رمزًا للقوة والحظ السعيد، والقدرة على النهوض من تحت الركام. فالصين اليوم، التى يتجاوز تعدادها 1.4 مليار نسمة، وتحتل المركز الثانى كأكبر اقتصاد عالمي، وتضع التكنولوجيا المتقدمة ـ كالذكاء الاصطناعى  فى قلب نموها، وتدفع بجرأة نحو نمو غير مسبوق فى عالم الفضاء، وذلك عبر محطتها الفضائية «تيانجونج» وبرامج لاستكشاف القمر، وتمكين قطاعها الفضائى التجاري، لم تكن قبل قرن واحد سوى دولة مهزومة، محاصرة، محرومة من أى دعم تنموى من الغرب وأمريكا.



عاشت الصين فى عزلة، وانكسارات متتالية، وأدركت أن لا طريق إلا أن تبدأ من الصفر، بسواعد أبنائها، فبرز رجل تمكن من تغيير مسار التاريخ بعقله وحده، إنه تشيان شيوهسن «Qian Xuesen»، الشاب الذى صاغته الصين القديمة، وعكف على تعلم أسرار الغرب، ليصبح جسرًا بين حضارتين، وبين الحلم والواقع، وبين الأرض والسماء، فلقب لاحقًا بـ «أبو الفضاء الصيني».

وُلِد «تشيان» فى عام 1911، فى مدينة «هانجتشو» بالصين، وهى مدينة الحدائق والبحيرات والعلم، كانت الصين يومها تعيش مرحلة انتقالية هشة، فلم يمضِ سوى أشهر قليلة على سقوط سلالة «تشينج» الحاكمة، حيث لم تكن نشأته فى قصر كبير أو أروقة السلطة، بل فى بيت كانت الكتب أثمن ما يورث للأبناء.

كان والده «تشيان جونفو»، درس القانون ثم اتجه إلى التعليم والخدمة الرسمية، يقدس الأدب والثقافة، يؤمن أن خلاص الصين لن يكون بالسيوف بل بالعلم. أما والدته «تشانغ لانجوان»، فجاءت من عائلة عريقة فى العلم والثقافة، وغرست فى طفلها انضباطًا هادئًا سيعينه يومًا على مواجهة عواصف لا يقدر عقل طفل على تصورها.

وحين انتقلت الأسرة إلى مدينة «بكين»، التحق «تشيان» بمدارس المدينة، حيث سرعان ما أدرك معلموه جدية عقله. كان صامتًا، بعيدًا عن الصخب، لكن حين تُطرح أمامه مسائل رياضية، كان يحلها بدقة لافتة.

كانت الصين حينها ممزقة بين أمراء الحرب الأهلية، غارقة فى الفقر، مثقلة بجرح الهزائم الوطنية، لكن فى الفصول الدراسية مثل فصله، كانت تومض شرارة أمل بأن مستقبل الأمة سيُبنى على المعرفة.

وفى عام 1929، التحق بجامعة «شنجهاى جياو تونج»، إحدى أعرق الجامعات فى البلاد، حيث غاص بين معامل يملؤها ضجيج الآلات ورائحة الزيت، متخصصًا فى الهندسة الميكانيكية.

تخرّج تشيان عام 1934، وقد رأى أساتذته فيه أكثر من مجرد مهندس بارع؛ ولمسوا عقلًا متهيئًا لمصارعة القوانين العميقة للميكانيكا والطيران، وعندما سنحت الفرصة للسفر لاستكمال دراسته عبر منحة دراسية، اغتنمها بلا تردد.

وصل تشيان إلى الولايات المتحدة الأمريكية فى عام 1935، حيث التحق أولًا بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا «MIT»، فلم تكن أجواء مدينة «بوسطن» الشتوية هى ما أسرت قلبه، بل تلك العجائب الميكانيكية فى مختبرات تضج بالتجارب صدى نظريات جديدة. 

لكنه سرعان ما شعر بالقلق الداخلي، فقد كان منهج وسياسات المعهد صارمة وتقليدية، بينما كان يتوق إلى شيء أبعد، حيث تترك الرياضيات الأوراق وتتحول إلى آلات تتحدى المستحيل.

وبالفعل فى عام 1936، انتقل إلى معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا «كالتيك»، حيث كان ينتظره قدر يغير كل شيء، التقى تشيان بالعالم الأمريكى من أصول مجرية «تيودور فون كارمان»، فقد كان ـ آنذاك ـ أسطورة فى علوم الديناميكا الهوائية، وحين نظر «فون كارمان» لأول مرة إلى هذا الطالب الصينى، رأى عقلًا يلتقط التعقيد بحس بسيط.

وبعد فترة، وفى مختبر «جوجنهايم لعلوم الطيران» فى معهد «كالتيك»، نشأ فريق شبابى أُطلق عليه لاحقًا اسم «فرقة الانتحار»، حيث يجربون الصواريخ فى الحر الجاف لمدينة «باسادينا» بولاية كاليفورنيا، بانفجارات أحيانًا كانت تزلزل بيوت الجوار. ووسط هذا الجو المتهور، كان «تشيان» هو الركيزة العلمية، يقدم الأساس النظرى الصارم الذى يحتاجه حماس الفريق الجامح. فلولا حساباته فى الديناميكا الهوائية والدفع النفاث والاستقرار، لبقيت تجاربهم مجرد مغامرات خطرة بلا قيمة.

وبحلول عام 1939، كان قد أكمل رسالة الدكتوراه حول ديناميكا السرعات فوق الصوتية ورحلات الصواريخ.

وفى نفس العام، أصبح ركنًا أساسيًا فى تأسيس ما سيُعرف لاحقًا بمختبر الدفع النفاث «JPL»، حيث كان العالم على أعتاب الحرب العالمية الثانية، والفكرة بأن الصواريخ قد تعبر الصحراء وربما الغلاف الجوى لم تعد حلمًا جامحًا، بل احتمالًا تأخذه القوى العظمى على محمل الجد. وكان تشيان، وهو فى العشرينيات من عمره فقط، فى قلب هذه العاصفة.

وفى العدد المقبل نكمل..