د.ريهام عرام
النيل.. سلاح مصر الخفى
لم يكن نهر النيل عبر التاريخ مجرد شريان حياة يمد المصريين بالماء والغذاء؛ بل تحوّل فى لحظات فارقة إلى سلاح دفاعى حاسم حافظ على بقاء الأمة المصرية أمام جيوش غازية حاولت السيطرة على البلاد.
منذ أقدم العصور، ارتبط المصريون بالنيل ارتباطًا وثيقًا، ليس فقط للزراعة والرى، بل أيضًا كدرع طبيعى يحمى الديار. ففيضانه السنوى كان يغيّر موازين المعارك، إذ يحوّل الأراضى المنبسطة إلى مستنقعات طينية تعوق تقدم الجيوش الثقيلة. هذا ما أدركه المصريون واستغلوه بذكاء فى عدة مراحل تاريخية.
أبرز الأمثلة ظهرت خلال الحملة الصليبية الخامسة (1218ــ1221) حين حاولت جيوش أوروبا السيطرة على مدينة دمياط والتوجه نحو القاهرة. القائد الأيوبى السلطان الكامل لجأ آنذاك إلى حيلة بارعة: فتح السواقى والمصارف لإغراق الأراضى المنخفضة حول معسكرات الصليبيين, ما أسفر عن تعفُّن المعسكرات وضعف الإمدادات، وبطء التقدم وسرعان ما غرقت الخيول والعربات فى الطين، وانتشرت الأمراض وسط الجنود. وبفعل هذا «السلاح المائى»، انهارت معنويات الغزاة وأُجبروا على التراجع.. هنا لم تكن السيوف وحدها هى التى دافعت عن مصر، بل كان الفيضان لاعبًا أساسيًا فى رسم ملامح النصر.
المؤرخون يرون أن عبقرية المصريين لم تكن فى اعتمادهم على النيل كقوة طبيعية فقط، بل فى توظيفهم لمنظومة الرى المعقدة من قنوات ومصارف وسدود صغيرة كأداة حرب غير تقليدية. هذه المنظومة، التى وُضعت أساسًا لخدمة الزراعة، تحولت عند الحاجة إلى خطوط دفاعية مائية تعطل الغزاة وتكسب المصريين الوقت لإعادة تنظيم الصفوف.
اليوم، لا يقرأ المؤرخون ومتخذو القرار هذه الحوادث باعتبارها دروسًا فى كيفية تحويل البيئة إلى سلاح فحسب، ولكننا نعيش الآن تطبيق هذه الدروس ونستعد لمواجهة كافة الأخطار التى تحدق ببلادنا، فنحن من طوعنا هذا النهر العظيم منذ أقدم العصور واستخدمناه كسلاح عند الضرورة, ولذا فإن المصريين هم الأقدر على مر العصور على تطويع هذا النهر العظيم لخدمة البلاد وحمايتها، لينقلب السحر على الساحر ويتضرر من أراد ضرك ويرتبك ويتخبط من أراد لك الشتات، والنيل الذى كان مصدر العطاء والخير، صار فى لحظة السيف الذى يرد العدوان، ولا أقوى من رد الطبيعة. إنها رسالة واضحة: أن مصر لم تُحمَ فقط بالجنود، بل أيضًا بالحكمة والقدرة على استخدام ما تملكه الطبيعة من قوى لصالحها وقبل كل شيء هى المحروسة بأمر من الله.
وبينما يبقى النيل رمزًا للحياة، يظل أيضًا شاهدًا على معارك كبرى لعب فيها دور البطل الصامت الذى ساهم فى حماية هوية الأمة المصرية واستمرارها عبر القرون.



