د.ريهام عرام
تحفة معمارية فى صحبة الأجداد
بداية الحضارة.. أصل التاريخ
لا تذهب إلى المتحف المصرى الكبير إن كنت تبحث عن زيارة تاريخية فقط ولا تهتم بالمرور بتجربة قيٍمة بعيدًا عن ضجيج الحاضر، ولا تزوره إلا إذا أردت قضاء وقت سعيد وممتع وتنتقل فيه إلى عالم قد مضى وانتهى، لكنه ما زال حاضرًا بقوة فى أذهان ووجدان كل شعوب الأرض الحالية. لا تذهب إلى المتحف المصرى. إن كنت تتوقع مشاهدة تماثيل أو قطع أثرية وتستمع إلى شرح مجرد لتحف أثرية فريدة... فالمتحف المصرى الكبير أكبر من مجرد متحف به حجرات وقاعات تكتظ بكنوز من مصر القديمة وتتعرف من خلالها على تاريخ لرجال عظماء وضعوا علومًا بنوا بها أمجادًا كانت سببًا فى تميزنا للآن عن باقى الأمم.

لكى تتمكن من الزيارة يجب أن تعلم أن المتحف المصرى الكبير هو رحلة مصرية قومية بدأت لصون وحفظ تراث مصر، رحلة بدأت فى منتصف القرن التاسع عشر فى قاعة ببولاق كأول «أنتيكخانة»، كما كان يطلق على المتحف آنذاك.

تم استخدام مبنى شركة الملاحة النهرية ببولاق كمتحف وتم توسعته وتطويره ليستوعب قطعًا أثرية مختلفة وتم افتتاحه رسميًا عام 1863، إلا أنه لم يلبث أن أغرقه الفيضان القوى للنيل عام 1878، ما تسبب فى إتلاف الكثير من معروضاته ودفع الحكومة المصرية ممثلة فى نظارة المالية آنذاك إلى تكليف «محافظ مصر» (محافظ القاهرة الآن) باستلام الأرض محل متحف بولاق وجرده جردًا مستوفيًا ومطابقته بالسجلات وذلك قبل نقله إلى سراى الجيزة لافتتاحه عام 1891.
وتستمر رحلة أول متحف مصرى بالعاصمة لينتقل إلى مقره بميدان التحرير فى عهد راعى الفنون والتراث عباس حلمى الثانى عام 1902، كأول مبنى متكامل أنشئ بغرض العرض المتحفى وحفظ القطع الأثرية المصرية وأقيمت مسابقة دولية لاختيار عمارته واستقر الرأى على تصميم المعمارى الفرنسى مارسيل دونون فأنشأ ذلك المتحف المصرى ليستقر بميدان التحرير (ميدان الإسماعيلية) سابقًا نسبة إلى مؤسسه الخديو إسماعيل قرابة المئة وعشرين عامًا ينتقل بعدها مرة أخرى إلى جوار حرم أهرامات الجيزة ليكون بمثابة امتداد لإحدى عجائب الدنيا القديمة التى ما زالت قائمة ليومنا هذا.
المتحف المصرى الكبير هو بمعنى الكلمة تحفة معمارية، ما أن يدلف إليها الزائر حتى يشعر بانفصال تام عن العالم الخارجى، هو الآن فى معية الأجداد، ولكن بوسائل الترفيه والاستمتاع الحديثة. تبدأ ساحة المتحف الخارجية الرحبة باستقبالك فى ميدان بمساحة 27000 متر مربع هو ميدان المسلة المصرية، حيث يرى الزائر أمامه الواجهة المهيبة للمتحف ممثلة حائط الأهرامات بارتفاع يصل إلى 45 مترًا مزينًا بأسماء ملوك مصر القديمة بلون ذهبى يخطف الأنظار ويعكس بهاء ما سيشاهده الزائر بالداخل.

وما أن يدلف الزائر إلى داخل المبنى حتى يقع نظره على تمثال الملك رمسيس الثانى أشهر ملوك مصر العظام وكبير البنائين الذى ملأ أركان مصر شرقًا وغربًا شمالاً وجنوبًا معابد وصروحًا وحواضر أيضًا للبلاد.
نجح المتحف المصرى الكبير منذ ظهر للنور وخلال مراحل إنشائه، فى اجتذاب الألوف المؤلفة من الزائرين من كل الجنسيات، فما بين عرب وأجانب تنوع الزائرون الراغبون فى قضاء تلك التجربة الفريدة لزيارة الدرج الأعظم الذى يمثل موجزًا لتاريخ مصر الثرى الذى يعد باكورة هذا المتحف، وهو سلم واسع ترتقى فيه درجات تحمل كل منها عددًا من القطع الأثرية المتنوعة التى تروى تاريخ حقبة زمنية من تاريخ مصر العظيم. فبينما تنتقل بين الدرجات من عصور ما قبل التاريخ (8000 ق. م) إلى العصر اليونانى الرومانى (332 ق. م) تستمع إلى شرح تفاعلى من خلال مرشد أثرى وسياحى مصرى متمكن يتحرك بك بسلاسة بين العصور المختلفة راويًا لك أهم ما شهدته تلك العصور وعارضًا عليك أعظم ما خلفته تلك الحقب من شواهد عليها.
وزيارة الدرج العظيم التى قد تمتد لأكثر من ساعة ونصف الساعة ليست بالزيارة المألوفة، فقد تم تجهيز التجربة بجميع وسائل الراحة، فبينما تستمع للشرح من خلال سماعات على أذنيك يمكنك الصعود على سلالم متحركة كهربائية صممت خصيصًا لاستيعاب أعداد كبيرة من الزائرين، فلست مجبرًا على السير بجوار مرشدك، حيث تستطيع الصعود وقتما شئت كما يمكنك الاستراحة على أحد المقاعد المريحة التى صُمِّمت ووضعت فى وسط الدرج وبين القطع الأثرية ليندمج الزائر مع القطع أثناء استماعه للشرح ولا ينفصل فى زيارته عن تأمل ذلك العالم العظيم للأجداد.

تشمل تجربة زيارة المتحف الكبير أيضًا المعرض التفاعلى لتوت عنخ آمون، ذلك الملك الصغير الذى تُوفى عن عمر لا يتعدى التسعة عشر عامًا الذى بلغت شهرته مبلغها بسبب ما وجد فى مقبرته من كنوز لا حصر لها من الذهب الخالص من توابيت وأوانٍ وأسرة وعروش وأقنعة وغيرها من القطع التى لا تقدر بمال، ما جعل الجميع يتساءل، إن كان هذا ما امتلكه ذلك الملك الشاب الذى لم يتمكن من حكم مصر مستقلاً سوى بضعة أشهر، فكيف كان ما امتلك سابقوه من عظام ملوك مصر كالملك رمسيس الثانى أو خوفو أو غيرهما؟ وأين ذهبت تلك الكنوز وكيف اختفت ولم نرها فى عصرنا الحديث؟ فهل سرقت أو تم تهريبها على مدار أعوام من الاحتلال؟
أيًا كان ما فقد من كنوز، فما بقى من كنوز هذا الملك الشاب قد سمح لأحفاده بأن يعرضوه بشكل إبداعى تفاعلى، حيث يرى الزائر نفسه فى قلب حياة الملك الأسطورى توت عنخ آمون قبل أن ينطلق فى رحلة سمعية وبصرية رائعة تمتد لأكثر من ثلاثة آلاف عام من التاريخ.
ويتعرف الزائر خلال هذا العرض الشيق على أهم المعبودات المصرية والفلسفة الإيمانية للمصرى القديم وإيمانه بالبعث والخلود والحساب فى العالم الآخر.
تستمر التجربة بشرح وافٍ لمدة نحو خمس وأربعين دقيقة يقوم فيها الزائر بالتجول وسط ملوك مصر القديمة بالرغم من جلوسه على مقاعد مريحة فى تجربة تفاعلية متقنة ورائعة.
ولم ينس القائمون على المتحف تأمين كافة وسائل الراحة للزائرين من مطاعم تحمل الطابع الشرقى المصرى وأخرى عالمية لتوفير تجربة تراثية سياحية متكاملة.
أنشئ المتحف ليضم قاعات عرض بمسطح 18000 متر مربع وبه متحف للطفل وفصول للحرف والفنون وقاعات للعرض لذوى القدرات الخاصة ومكتبة رئيسية، بالإضافة إلى مكتبة للكتب النادرة ومكتبة للمرئيات علاوة على مبنى كامل للمؤتمرات وساحات خارجية تضم مطاعم متعددة يحمل كل منها طابعه الخاص ومتحفًا لمركب الشمس وحدائق ترفيهية وغيرها من الخدمات التى يحتاجها الزائر لقضاء تجربة فريدة من نوعها.

المتحف المصرى الكبير ليس مبنى متحفيًا عاديًا مثل غيره من المتاحف، هو مؤسسة ثقافية ومجتمعية خدمية كاملة مكتملة، تهدى زائرها العلم والفن والثقافة فى إطار من الترفيه والمتعة وينافس بضراوة أكبر وأشهر المتاحف العالمية ليس فى الشرق الأوسط فحسب، بل فى العالم كله. هو بلا شك امتداد لعظمة أجدادنا المصريين القدماء وأكبر دليل على استمرارية الإنجاز، فى العصر الحالى فالمتحف هو تجسيد لفكر يحافظ ويصون تراث الأجداد. المتحف المصرى الكبير لا تفوتك زيارته مع أبنائك وأصدقائك.