الأحد 28 ديسمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

أول تحليل نفسى لرباعيات صلاح جاهين

قرص منوم قبل دخول السرير

 إن النشاط السلوكى أو النفسى  للإنسان  يتكون من ثلاث وظائف نفسية، تتفاعل وتتداخل معًا فى شكل تكاملى، لتكوّن الأركان الثلاثة لرد الفعل تجاه المؤثرات الخارجية والداخلية.



 و«أنماط الشخصية» تُقسَّم تقسيمات عدة، فإنه فى كل نمط من تلك الأنماط تحتل إحدى الوظائف النفسية جانبًا أكبر وأكثر هيمنة فى تحديد طبيعة سلوك تلك الشخصية وردود أفعالها.

ففى الشخصية الفصامية تحتل الوظيفة المعرفية جانبًا كبيرًا  من حيث  إيثار النشاط الذهنى، والقراءة، والميل للخيال.

بينما نجد العواطف إلى حد ما غير جياشة والنزوع يميل للانطواء والعزلة الاجتماعية.

بالمثل فى الشخصية الدورية، حيث تحتل فيها الوظيفة الشعورية ركنًا عريضًا، فنرى الشخص متقلب المزاج، عاطفيًا سريع الحزن، سريع الفرح، ودودًا، محبوبًا، بينما الوظيفة المعرفية قد لا تكون بنفس الكفاءة، فهو رغم احتمال كونه قارئًا جيدًا، فإنه قد يكون تلميذًا بليدًا.

 وبنفس القياس الشخصية العدوانية «السيكوباتية»، فالفرد  فيها أسرع لتحقيق رغباته الحسية دون مراعاة كبيرة للتفكير فى العواقب، مدفوعًا لإشباع تلك الرغبات دون تحمل مسئولياتها. 

 وقد يكون الحب والكره عنده غير مهمين، رغم أنه قد يبدو على علاقة حميمة بالجنس الآخر. 

 وإذا كان التركيب للشخص يرتبط إلى حد ما وينمّْ فى الغالب عن نمط شخصيته، فنجد فى الصفات الجسمانية الغالبة أن الفصامى يميل كثيرًا للطول والنحافة، بينما الدورى يكون بدينًا قصيرًا ممتلئ الوجه. 

 و«الأحوال المرضية» للنفس  تكاد تُقسّم بشكل يشابه كثيرًا تقسيمة أنماط الشخصية، فإنه من باب أولى عند تعرض كل نمط من أنماط الشخصية لما قد يدعو «من الظروف» لظهور وترسيب المرض النفسى، فإنه يميل إلى الظهور فى النمط المماثل لنمط الشخصية. 

 وهنا تكون الوظيفة النفسية المهيمنة على نمط الشخصية هى الأكثر حملاً لأعراض المرض بشكل أولى، وإن كان خلل فى باقى جوانب السلوك، فبشكل تابع.

 الاكتئاب 

 هو عنوان فرعى تحت عنوان أكبر هو أمراض الشعور، أو أمراض الوظيفة الشعورية.

 وواضح من التسمية أنه مرض نفسى يصيب السلوك فى المقام الأول، ومن ثمَّ فإنه يكثر بين أنماط الشخصية التى تحتل فيها هذه الوظيفة المساحة الأكبر «النمط  الدورى أو الجسم البدين».

 والغرض الأول والأهم تشخيصيًا فى الاكتئاب هو «الحزن»، إذ إنه «لا اكتئاب بدون حزن»، وإن اختلفت درجات ومقدرة على التعبير اللفظى عنه.

 وكذلك الألم النفسى والشعور بالمرارة والنظرة السوداوية والتقليل من شأن الذات من الأعراض الرئيسية للاكتئاب.

تلك «المشاعر» عادة ما تكون مصحوبة على مستوى الوظيفة «المعرفية» بسيطرة فكرة الموت مجردة، إلى تَمنّى الموت نفسه، إلى فكرة الانتحار، كنهاية وحَلٍ للألم النفسى.

كذلك تسيطر أفكار الخطيئة  والشعور بالذنب  بشكل مكثف بما قد يرقى لمرحلة الضلالة، ومن مجرد الأحلام المزعجة والكوابيس، إلى امتدادها لحيز اليقظة فى شكل «هلاوس» كما فى حالات الذهان.

 كذلك التغيرات فى الوظيفة السلوكية من حيث صعوبة اتخاذ القرار، قلة النشاط، الخمول، والبقاء فى الفراش لمدد طويلة؛ افتقادًا للرغبة - والقدرة على ممارسة الحياة. 

 والاكتئاب يكاد يكون المرض النفسى الوحيد الذى قبل أن يُنَظَّر أكاديميًا، فإنه لوحظ فى الكتابات الأدبية القديمة، وخاصة الشعرية منها.

 من هنا تأتى أهميته بالنسبة للشعر، وكذلك أهمية الشعر بالنسبة للاكتئاب.

 يمكن ربط النظريات السابقة ومحاولة تطبيقها على صلاح جاهين كشكل جسمانى قبل التطرق إلى شعره.

 جاهين بتركيبته البنائية  قصيرة القامة،  بدينة الجسد، عريضة الرقبة، ممتلئة الوجه، طفولية الملامح، بتركيبته النفسية الجياشة  العواطف، المرحة، الودودة، متعددة المواهب والأنشطة، عريضة الإبداع سريعة التأثر، متأرجحة المزاج، وعلاقات بشرية عديدة، سريعة، وحميمة كما يحكى عنه مقربوه وكما تشى به إبداعاته المختلفة.

 فإنه بذلك قد يكون مثال أشهر للشخصية الدورية، والتركيبة البدنية.

 وتلك الشخصية والتركيبة عندما تقع فى براثن ليالى الاكتئاب (وهى كثيرة)، وحينما يخرج منها للحظات الفرح، فإنه يُعَدّّ مثالا أشهر لأمراض الشعور. 

وبعيدا عن الشهرة  فهو مثال مهم من بين الشخصيات العامة لحالات الاكتئاب، وذلك على مستوى التنظير  الأكاديمى، والممارسة الإكلينيكية، وكذلك على مستوى النقد الأدبى. 

 ويقال إنه كلما انخفض المستوى الثقافى للفرد، وقل إداركه وبصيرته لماهية التغيرات  أو المعاناة النفسية والشعورية وكلما صعب عليه التعبير عنها بشكل مباشر لغويًا.

وكلما كثر استخدامه للحيل (الميكانزمات) التى يسقط أو يحوّل  بها أعراضه النفسية إلى أعراض وشكوى عضوية، فيما يسمى «بلغة الجسد»، وعليه كلما ارتفع المستوى الثقافى وتوفرت الموهبة، حدث العكس. 

 لذلك: فإن جاهين  «المثقف/ الحساس/ الفيلسوف/ الشاعر/ المبدع» يستطيع أن يمُدًّنا بذخيرة «تعبيرية / إبداعية» هائلة، مستمدة من وتحكى  عن تجربة الدخول فى أدغال الاكتئاب، والغوص أو الغرق فى أعماق خصم تلك اللحظات، مستخرجا أطيب الثمر وأندر اللآلئ.

 إذ  إن التحولات الشعورية  والاكتئاب خاصة من أكثر اللحظات توليدا للإبداع، وإن كان النزوع فيها قد يُِرى فى أثنائه فى حالة استسلام سلبى وخمول. 

 لكننا وعن شيء من التجربة نعتقد أن الكمون الاكتئابى ليس حالة موات، بل حالة من الحياة الكاملة النشطة يكون الشعور فيها إيجابيًا، إضافيًا، وليس سلبيًا.

 ولكنها تظل فى الوقت نفسه طاقة تفاعل تحت السطح، لا تتبدد ولا تستهلك فى غير منتج لأنه فى تلك الحالة تتعتق وتتخمر التجربة، لتساقط ثمراتها فى لحظات ما بعد الاكتئاب  (وإن كانت قليلة).

 وهذا ما يلاحظ فى كثير من المبدعين من أصحاب  الشخصيات الدورية، إذ يخرج معظم إنتاجهم «مكثفًا» فى فترات قليلة ومتباعدة من حالات النشاط، تفصلها فترات طويلة من الاكتئاب.

 الرباعيات فى الميزان

 الرباعيات  هى فن شعرى  يختصر ويختزل التجربة الشعورية والشعرية فى أربعة أبيات أو أسطر.

كتبها  من  قبل أبوالعلاء المعرى، وعِرف  بها «عمر الخيام»، وتغنى بها «ابن عروس» فى فن المربعات  بالعامية  المصرية.

و«لصلاح جاهين» عدة دواوين، أهمها فيما يخصنا فى هذا المقام «ديوان الرباعيات»، ويقول يحيى حقى: «الرباعيات هى صلاح جاهين، وصلاح جاهين هو الرباعيات».

 إنها خلاصة تجاربه الذاتية- وكل الشعر الحقيقى قطعا تجارب ذاتية.. ولكننا نكاد نلمس ونقرأ فيها تواريخ رزنامة التقويم، فهى تكاد تكون يوميات الشاعر، يعبر فيها عن شجونه بشكل مكثف  مختصر كالقرص المنوم قبل الدخول للفراش.

الرباعيات «شكلا» تكاد تكون كلها من بحر عروضى واحد (السريع): 

 (مستفعلن مستفعلن مفعولات)

لكنه دائمة مطويّ مكشوف العروض:

(مستفعلن مستفعلن فاعلن / أو فَعِلن)

 وترتيب القافية فيها على نسق (أ أب أ)، باختلافها فى البيت الثالث عن باقى الأبيات، لتكون قافية البيت الثالث نقطة ارتكاز للشاعر يقفز منها لنقطة المباغتة، ليلسعنا  بسوطها فى البيت الرابع ويغلق  الباب خلفه.

 والرباعيات مضمونًا تكاد تقوم على نسق واحد معتمد على استكشاف المفارقة، واستخراج ملمح العجب والغرابة فى مظاهر الحياة و«عجبى!!» وعلاقات الأشياء ببعضها، متجاوزًا الوصف المجرد إلى فلسفة الرؤى.

 والرباعيات فى الأساس  تدور حول أغراض  مختلفة غير أن تلك الأغراض تتداخل معًا،  فنجد الرباعية عند صلاح جاهين تتسع لأكثر من تصنيف،  وتحمل أكثر من دلالة، وتتعدد فيها مستويات القراءة والإيحاء.

 والأمثلة عند صلاح جاهين تخضع للفرض السابق، فهى  لا تنحصر ولا تتقيد فى وصف  الاكتئاب، لكنها تتسع لدلالات أخرى، وإن كان الحس الاكتئابى خلفية مشتركة لها.

 مظاهرها  فى سطور 

 الشعور «بالضيق وانقباض الصدر والاختناق والزهق والملل»، من الأعراض «البدائية» للاكتئاب والتى يعبّر عنها الشخص العادى - بلا فلسفة ولا ثقافة- بنفس الألفاظ»، كونها أقرب للأعراض الجسمانية، أو لعلها أيضا إحدى وسائل  التعبير بالجسد. 

 ويعبر جاهين عن ذلك بشكل غير مباشر تقتضيه الضرورة  الشعرية، مثلا: 

 تسلم يا غصن الخوخ يا عود الحطب 

 يجى الربيع تطلع زهورك عجب 

 وانا ليه بيمضى ربيع، ويجى ربيع ولسه برضك «قلبى حتة خشب»!!

 وفى رباعية أخرى: 

كيف شفت قلبى والنبى يا طبيب 

همد ومات والاّ سامع له دبيب 

 قال لي: لقيته «مختنق بالدموع»

 ومالوش دوا غير  لمسة من إيد حبيب!!

  وثالثة: 

 أيوب رماه  البين بكل العلل 

 سبع سنين مرضان وعنده شلل 

 الصبر طيب .. صبر أيوب شفاه 

 بس الأكادة «مات بفعل الملل»!!

 هنا عبر صلاح عن شعور بدائى آخر للاكتئاب، وهو «المرارة»، وهو نوع من الألم النفسى يعبر عنه بتلك الكلمة الحسية  التذوقية، ونفس المصطلح يستخدم بالإنجليزية ولعله من التعبيرات المشتركة بين الثقافات!!

 ويكاد «الاكتئاب والقلق» يرتبطان بعلاقة تبادلية حميمة، إذ يفضى الاكتئاب لحالة من القلق والأرق واضطرابات «رتم» النوم، وكذلك القلق يُحدث شحنة من الألم النفسى تفضى  إلى اكتئاب، وجاهين يكتشف  هذه العلاقة فى الرباعية: 

 قطى العزيز راقد على الكنبات 

 فى نوم لذيذ، وبيلحس الشنبات 

 وانا كل عين فنجان مدلدق «قلق»

 صدق اللى قال إن الحياة منابات!!

علميًا إذا كان الطور «الهوسي» للمريض يتميز بقدر كبير من إعلاء الشأن والثقة بالقدرات الشخصية بشكل مبالغ فيه، فإن الطور الاكتئابى يتسم بقدر موازٍ من «الإقلال من شأن الذات» المخلوط بالإحباط. 

  وقد يصل لتحقير شأن الذات، وصلاح جاهين يمدنا بذخيرته  فى  ذلك مسقطًا إياه على جنس الإنسان كله:- 

 إنسان أيا إنسان ما «أجهلك»

ما «أتفهك» فى الكون وما «أضألك»

شمس، وقمر، وسدوم، وملايين النجوم 

 وفاكرها يا «موهوم» مخلوقة لك؟!!

 ويقول: 

«حقرا»، وفوق كوكب «حقير محتقر»

فى الكون تكون دنياكو إيه يا «بقر»

رملاية من صحرا؟ لكين إيش تقول 

 والكون بحاله جوه عقل البشر

 ويرتفع المد الاكتئابى ليصل لأعنف صوره وأكثرها سوداوية، متمثلة فى «أفكار الموت/ الانتحار»، وكان صلاح مجبرًا  على فكرة الموت، لكنه يحب الحياة لذلك قال:

 الدنيا أوضة كبيرة للانتظار

 فيها ابن آدم زيه، زى الحمار

 «الهم  واحد .. والملل مشترك»

 ومفيش حمار بيحاول «الانتحار»!

 ويقول: 

 دخل الربيع يضحك لقانى «حزين»

نده الربيع على اسمى «لم قلت مين»

حط الربيع أزهاره جنبى وراح

 وإيش تعمل الأزهار للـ«ميتين»!!

أما الرباعية التى تصف بجدارة عرضًا مهمًا جدًا من أعراض الاكتئاب الشديد، وهو «فقدان القدرة الحركية» قال فيها: 

 دخل الشتا وقفل الببان ع البيوت

وجعل شعاع الشمس خيط عنكبوت

وحاجات «بتموت» فى ليل الشتا

لكن حاجات أكتر بترفض تموت!!

 أعراض مزمنة

قد يصل الاكتئاب إلى مرحلة التهضب أو الإدمان  وهي حالة من التعود والتعايش مع الاكتئاب خلقها طول  السواد وقرب الوساد بينهما، يعبر عنها جاهين بواحدة من «أروع» رباعياته: 

 يا حزين يا قمقم تحت بحر الضياع 

 حزين أنا زيك، وإيه مستطاع 

 «الحزن ما بقالهوش جلال يا جدع»

«الحزن زى البرد .. زى الصداع!!»

وكأنه هنا قد تعود على الاكتئاب، فضاعت لذته فأصبح روتينا، لم يعد يحتاج لكل ذلك التأثر والانفعال، ولا الوقوف طويلا أمامه «الحزن زى البرد .. زى الصداع» عرض يومي يتحسن «بقرص أسبرين»!!

 وفى مراحل إدمان الاكتئاب يدخل المريض مرحلة البصيرة، وهى وليدة مرحلة التعوّد،  حيث يصبح حكيما عليما بماهية الاكتئاب، و«دوريته» ومن ثم عدم جدوى الاستسلام له، مستشرفًا ما بعده، متوقعًا عودته  فى دورة جديدة، لذلك قال شاهين:

«حاسب من الأحزان وحاسب لها»

 حاسب على رقابيك من حبلها 

 «راح تنتهى، ولابد راح تنتهى»

 مش انتهت أحزان من قبلها!

 وقال: 

«بأسك وصبرك بين إيديك وانت حر»

 «تيأس، ما تيأس.. الحياة راح تمر»

 أنا دقت من ده، ومن ده عجبى لقيت 

 الصبر مر، وبرضك اليأس مر!!

 وكتب: 

إيه اللى خدته من مرور السنين يا قلبى إلا دمعتك والأنين 

«بتئن، وبتفرح، وترجع تحن»

 مع إن مش كل البشر فرحانين

ندخل إلى مرحلة الإسقاط:

وقد احترت أمام ترتيب هذه المرحلة بين زميلاتها، وحول دلالتها التفسيرية،  وأرجو أن أكون موفقا فى الترتيب والتفسير.

 فإذا كان جاهين قد جرد من نفسه مخاطبا ناصحا فى الرباعيات السابقة، فإنى «أعتقد» أن  تلك مرحلة، مهدت لمرحلتنا هذه فى محاولة للتخلص من «حِمل» الاكتئاب الزائد بإسقاطه على البشر والكون خارج نفسه، باستخدام حيلة الإسقاط وإن كان استخدام هذه الحيلة يحمل شبهة خلل فى البصيرة فى إطار هذا السقوط الهروبى، وقد يرى أنه امتداد لمرحلة البصيرة، بالخروج بعيدا عن مستقنع الاكتئاب والنظر إليه من الخارج. 

 ولكن بأية حال لعل الأمر كله مفيد جزئيا ومرحليا فى علاج الاكتئاب لذلك  كتب: 

 يا قرص شمس مالهاش قبة سما 

 يا ورد من غير أرض  شب، ونما 

 يا أى معنى جميل سمعنا عليه 

 «الخلق» ليه عايشين «حياة مؤلمة»؟؟

  وكتب:

 أعرف عيون هى الجمال والحسن 

 واعرف عيون تاخد القلوب بالحضن 

 وعيون مخيفة وقاسية وعيون كتير 

 وباحس فيهم كلهم «بالحزن»!!  وقال:

  «إيش تطلبى يا نفس فوق كل ده؟ 

 حظك بيضحك، وانتى متنكدة 

ردت قالت لى النفس: قول «للبشر»

 ما يبصوليش «بعيون حزينة» كده!!

 وقال أيضا: 

 مزيكا هادية الكون فيها انغمر

 وصيف، وليل، عقد فل، وسمر 

 يا هل ترى الناس  كلهم مبسوطين

 ويا هل ترى شايفين جمال القمر؟؟ 

 وهنا قد  ندخل إلى مرحلة التعادلية، وهى مرحلة «البين - بين»، أى ما بين النهوض من رقدة الاكتئاب، والخروج لطور البهجة والانبساط، وقد تكون أيضا هى مرحلة الاستعداد، وهى بالنسبة للمجربين وذوى الباع فى الحزن والفرح الدورى لا طعم لها ولا لون وفيها كتب جاهين:

 يا ميت ندامة ع «القلوب الخلا» 

 لا محبة فيها ولا كراهة، ولا .....

 «حتى يا قلبى الحزن ما عاد شى فيك 

 ماعلهشى لك يوم برضه راح تتملا!!

وكتب: 

على بعد مليون ميل من أرضنا 

من «الفراغ الكوني» بصيت أنا 

لا شفت فرق بين جبال وبحور

«ولا شفت فرق بين عذاب وهنا»

وأقف كثيرا أمام لفظ التحسر «يا ميت ندامة» هل يندم الشاعر على ضياع الحزن؟! وهل الألم النفسى خير من التبلد؟ 

وأحسب أن الإجابة نعم، فإن للحزن لذة لدى بعضهم كما قلنا سابقا.

تطور الحالة الشعرية لدى صلاح جاهين تشير فى النهاية إلى مرحلة ما بعد  الاكتئاب وجاهين يمطرنا بوابل من الرباعيات فى تلك المرحلة. فهو يصحو ويستفيق فجأة لينتهز ويلتهم تلك الفترات القصيرة العارضة قبل السقوط ثانية، الذى يتوقعه قريبًا بخبرته ويقول: 

فى يوم صحيت شاعر براحة وصفا

الهم زال والحزن راح واختفى

خذنى العجب وسألت روحى سؤال:

أنا مت ولا وصلت للفلسفة؟؟

ويكتب:

أنا كنت شيء وصبحت شيء ثم شيء

شوف ربنا قادر على كل شيء

هز الشجر شواشيه، وشوشنى قال:

لابد ما يموت شيء عشان يحيا شيء!!

ويكتب أيضًا: 

كرباج سعادة وقلبى منه انجلد 

 رمح كأنه حصان ولف البلد

ورجع لى آخر الليل وسألني:

ليه خجلان تقول إنك سعيد يا ولد!!

ثم فى واحدة من أروع، وأدق، وأعمق رباعياته، يلخص جاهين النمط السلوكى للشعب المصرى  والذى هو أميل «للدورية» ـ إن جاز لنا هذا الفرض، فهو شعب عاطفي، مبالغ فى التأثر، سريع الحزن، سريع الفرح.

فنحن حين نفرح ونضحك، بخبرتنا بالحياة نستشرف حزنًا آتيًا خلف الأفق، فشدة الفرح لدينا يتبعها انقباض فى الصدر (خير اللهم اجعله خير).

لذلك نحن نخاف من الفرح خوفنا من الحرن: كما كتب جاهين فى تلك الرباعية الأخيرة:

انشد يا قلبى غنوتك للجمال

وارقص فى صدرى من اليمين للشمال

 ما هوش بعيد تفضل لبكره سعيد

ده كل يوم فيه ألف.. ألف احتمال!!