السبت 22 نوفمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

ومائة عام من الفن

جاذبية سرى

 «أحلم بالرسم، وبعد ذلك أرسم حلمي» مقولة «فان جوخ» تعبير  صادق عن أهمية الفن لدى الفنان التشكيلى «أنه التواصل بين ذاتية الفنان والعالم»، وهو ما قامت به الفنانة الكبيرة جاذبية  سرى»  حين  حولت أحلامها إلى  واقع فنى ورغم تعدد معارفها الفنية ودراستها للمدارس الفنية المختلفة فإن ترسيخ الهوية الوطنية وإعلاء الفرد وسعيها الدائم لمزج أطروحتها الوطنية من خلال لوحات تعكس ملامح المجتمع المصرى بأشكاله المختلفة.



 صورت بيئتها - محاسنها وسيئاتها - آملة الوصول إلى مؤثرات بصرية خاصة مثيرة للتغيير إلى الأفضل بجرأة واضحة فى طرح موضوعات لم تكن مثارة، أهمها قضايا المرأة وحقوق الإنسان ولعل لوحة «الزوجة الثانية»   أوضح مثال،  التى تمثل قهر الرجل لزوجته الأولى حيث تظهر فى وضع انكسار وأمامها أبناؤها والزوجة الجديدة تظهر بدلال، لذلك شكلت  جاذبية سرى عناصر إبداعية غير مألوفة تظهر فيها مشاعرها الذاتية ومشاعرها تجاه قضايا الإنسانية عمومًا غايتها استمرار الحياة الكريمة لأفرادها.

 

 

 

 لم تكن لوحاتها تقتصر على مبدأ «الفن للفن»، بل فاق ذلك إلى هدف أسمى هو الحرية وهو  الحلم الأثير لديها .

 ولدت الفنانة جاذبية سرى فى 11 أكتوبر 1925 فى حى بولاق وبعد وفاة والدها وهى فى سن صغيرة انتقلت للعيش مع جدتها فى حى الحلمية ليرعاها أعمامها وأحدهم يهوى الرسم، ويشارك الفنان الرائد «أحمد صبري» مرسمه، ويتفتح وعيها منذ طفولتها على أهمية الفن لتلتحق بالمعهد العالى للبنات فى الفنون الجميلة وحصولها على إجازة التدريس فى التربية الفنية. 

 لم تكتف الفنانة الشابة بذلك فأحلامها وطموحاتها الفنية حلقت بها إلى آفاق الفن العالمى  لتتم  الدراسات العليا فى باريس عام 1951 ثم روما 1952 وتلتحق بعد ذلك بكلية سلين بلندن 1954-1955.

 كل تلك الدراسات تشبعت بها جاذبية سرى لتمر بمراحل فنية مختلفة بدايتها من الواقعية ثم التجريدية والتعبيرية لتصور البيئة المصرية بلغة بصرية ثرية. 

 تميزت لوحات  جاذبية سرى بتلخيص اللوحات فى خطوط حادة واضحة ، وإن اختلفت حدتها فى بعض  مراحلها الفنية وأهم موضوعات أعمالها  كانت معنية بالإنسان وبيئته.

 

 

 

 فى بداية مشوارها  عاصرت المد الثورى قبل وبعد ثورة يوليو فكانت لوحاتها عن العمال والفلاحين والسد العالى واهتمامها بملامح الشخصية المصرية البسيطة وعاداتها اليومية ومن أشهر لوحاتها فى هذا المجال لوحة «نشر الغسيل» . 

 من أهم وأثرى فترات حياتها الفنية ونضج التجربة تصويرها للبيوت وما تكنه من أسرار وقامت برسمها بأسلوب يمزج بين التكعيبية والتجريدية.

 وربما كانت تلك المرحلة - بداية السيتينيات - هروبا وتخوفا من ضياع الحلم القومى لتتحول إلى رسم البيوت ومراكب النيل بعيدًا عن التواصل مع ملامح البشر . 

 فى منتصف السبعينيات من القرن الماضى تحولت جاذبية سرى إلى موضوعات أكثر رحابة واتساعًا لتعتقل الصحراء الممتدة فى لوحاتها بلمسات ناعمة  مفعمة بالحركة والحيوية بعيدًا عن المساحات الضيقة والتصاق الجدران وكأن رمال الصحراء رئة تستمد منها رحابة الفكرة . 

 تعود الفنانة بعد ذلك  وبشكل متسارع للمزاوجة  فى تصوير الصحراء والبيوت والتلاحم البشرى مع الجدران لتشكل بها حوارًا راقيًا بين العضوية التشخيصية والتجريد الهندسى .. لتستمر فى حلقة  ثرية فى تصفية كل المشاعر وضمها ليظهر البشر بأشكال البيوت  وإذابتهم مع الصحراء فى نموذج فريد يشى بشخصيتها الفنية الفريدة والغزيرة فى الموهبة . 

 التقت الفنانة بالباحث «عادل ثابت» أثناء ندوة نظمها الكاتب «لطفى الخولي» ودعاها لحضورها وكان عادل ثابت معنيًا بالعلاقة بين الفيزياء  والفن لتدور بينهما مناقشات متعددة بعد ذلك فى لقاءات متكررة ولا نعلم إلى أين وصلت هذه المناقشات، ولكن الأكيد أن جاذبية وعادل ثابت أكدتا أن الانصهار  والتفاعل بين الفيزياء  والفن يلتقيان فى بوتقة المحبة ليستمر الزواج بينهما أكثر من خمسين عامًا- قبل رحيل عادل التى قالت عنه جاذبية: «كان كل شىء لى كان يدى وعينى، ائتمنته على نفسى وعلى كل شىء».

 ووصفها عادل بدوره «شيء قليل أن أهتم أنا فقط بجاذبية سرى، يجب  على الجميع أن يهتم بها فهى ثروة قومية علينا أن نحافظ عليها».

 أقامت الفنانة جاذبية سرى أكثر من 60 معرضًا خاصًا وشاركت فى العديد  من المعارض المحلية والدولية -  ولها مقتنيات بالمتروبوليتان بنيويورك وهو من أهم المتاحف الفنية العالمية، ومتحف الفن الحديث بالقاهرة - حصلت على الجائزة  الشرفية لمهرجان « فينسيا الدولى».

 حصلت على جائزة الدولة التشجيعية ووسام الدولة للعلوم والفنون من الطبقة الأولى عام 1970 وجائزة الدولة التقديرية عام 2000.

 الفن النبيل صنع فنانة عظيمة أعطت الفن بروح ثرية فوضعها فى مكانة رفيعة بين فنانى العالم .. ونحتفل بمرور 100 عام على ميلاد وإبداع حرك مياه البحيرة  لتسرى فيه روح الفن والمحبة للإنسان والوطن.