محاولات لقراءة متون السماء
لماذا اخترع هؤلاء السحر؟!

سامح إدوار سعدالله
قديمًا منذ خرج الإنسان إلى الأرض يدوسها بقدمه، وشرع يعتمد على عقله فى التأمل والتفكير والتمييز للمأكل والمشرب والملبس ثم البحث عن الأمان من مخاطر الطبيعة، ثم رفع عينيه إلى السماء، وراح يراقب النجوم والكواكب، بحثًا فى أسرار الكون، والحياة، والسعادة، والحظ، والمصير، والطالع، وسرّ الموت.
وُلدت محاولات لتفسير المجهول، أو لفلسفة الميتافيزيقا، وهى البحث فيما وراء الطبيعة، وصياغة معنى لما يتجاوز الإدراك الحسى.
شرع الإنسان يتواصل مع المجهول، ويرتبط بالغيبيات، ولكن لا نعرف متى توصّل الإنسان إلى هذه القوى السحرية..

لكن يبقى السؤال الجوهرى:
هل تؤمن بالسحر؟
هل يستطيع السحر أن يؤثر فى مسار حياة الإنسان؟
هل كان السحر والتنجيم علمًا غابرًا سابقًا على ظهور المنهج العلمى، أم أنهما مجرد خرافة باطلة لا تستند إلى منطق أو إلى برهان؟
وهل انتشارهما فى تراث الشرق الأوسط تحديدًا، كان نتيجة نقص معرفى، أم أنه يعكس منظومة فكرية معقّدة تستحق التأمل بدل الرفض المطلق؟
للإجابة عن هذه الأسئلة، لا بد أن نتعمق أكثر فى دراسة السلوك والتراث الإنسانى القديم، وحضاراته القديمة، ونتتبع آثاره وأيديولوجيات الفكر عنده.
قبل دراسة الفلسفة ومحاولات الإنسان فى استكشاف الحياة وأمور ما حوله، اعتمد الإنسان على إيمانه بالطبيعة والديانات القديمة، وعلى السحر.
فقديمًا، كان يُطلق على الكيمياء اسم الخيمياء أو السحر الأسود، ونجد ذلك فى بعض دراسات المستشرقين وفى أبحاثهم العلمية التى تدور حول علم المصريات القديمة.
فنجدهم يفسّرون حالات الاختناق التى تحدث لمنقّبى الآثار فى المقابر الأثرية بأنها نتيجة خروج غاز سام يخنق كل من يستنشقه، ويخرج هذا الغاز بمجرد فتح المقبرة.

وهذا لا ينكر أن المصريين القدماء اعتمدوا على العلم بجوار السحر لتلبية رغباتهم وخدمة أغراضهم.
وذُكر السحر فى الحضارة المصرية القديمة عندما اشتد الصراع بين النبى موسى وحكماء فرعون. فقد حوّل موسى عصاه إلى حيّة مدعومًا بقوة إلهية، فيما اعتمد سحرة فرعون على سحرهم فى تحويل عصيّهم إلى حيات. وهناك دراسات ومحاولات عديدة لفهم هذه الظاهرة عن السحر والتنجيم فى الحضارات القديمة، أى: «العلم قبل أن يولد العلم».
البابليون من أوائل من حاولوا قراءة السماء بوصفها «نصًّا» يمكن من خلاله التنبؤ بما يحدث على الأرض.
وسجل الكهنة البابليون تحركات الكواكب والنجوم، ويربطون بينها وبين الظواهر الأرضية من فيضانات، أوبئة، أو حتى سقوط الملوك.
يرى جان بوتيرو (فى كتابه بلاد الرافدين - بدايات التاريخ) أن التنجيم البابلى كان جزءًا من نظام كونى شامل، حيث تتداخل الميثولوجيا مع الملاحظة الفلكية، بما يشبه محاولة بدائية لخلق علم شامل. وفى مصر الفرعونية، لم يكن هناك فصل بين الدين، والسحر، والعلم. التمائم، التعاويذ، و«كتاب الموتى» لأن كلها كانت وسائل لضمان الانتقال الآمن إلى العالم الآخر.

والسحر الفرعونى كان وسيلة وقتها استطاع من خلاله السحرة اختراع نظريات عن علوم ما بعد الطبيعة أو الميتافيزيقا، إضافة إلى محاولات التحكم فى القوى غير الملموسة.
وكان هذا السحر هو أحد فنون الحضارة المصرية القديمة.
وكان السحرة يصنعون دمية لشخص يريدون إيذاءه، ويقومون بوخزها بالإبر أو حرقها, وكانوا يستعملون التعاويذ والأحجبة والطلاسم، إضافة إلى مواد غريبة كشعر التيس، ومخلفات فرس البحر، والتماسيح.
ومورس السحر على يد كهنة أُطلق عليهم اسم «غريو حب» باللغة الهيروغليفية، وهم الذين كانوا يرتّلون التعاويذ والنصوص والطلاسم.
الكثير من الملوك المصريين لديهم معرفة بالسحر، لذلك وضعوا تعاويذ على قبورهم حتى لا يسرقها أحد، وبالسحر تواصل الكهنة فى مصر القديمة مع الجن كما اعتقدوا.
وكان السحرة يشربون «الكود السحرى» الذى يُكتب على ورق البردى بعد إذابته.
وفى فارس القديمة، قسّم المجوس السحر قسمين: السحر الأبيض للخير، والسحر الأسود المنسوب للأرواح الشريرة, واعتبروا التنجيم علمًا دينيًا منضبطًا.
والممارسات السحرية والحضارات القديمة لم تكن مجرد شعوذة؛ بل ترتبط بنظام كونى أخلاقى يربط بين أفعال البشر وقوى الخير والشر فى العالم.
بل أصبح زمن التمييز بين علم الفلك (النجوم) وعلم التنجيم (أحكام النجوم) أكثر وضوحًا.
ومع الوقت انتشرت كتب مثل شمس المعارف الكبرى والصحيفة السليمانية، التى ارتبطت بأدب الطب الشعبى، وتحضير الأرواح.
وفى الأسواق الشعبية، كما فى قصور الملوك، استمر العرّافون والمنجّمون فى لعب أدوار اجتماعية، مما يشير إلى قوة الخيال الجماعى فى إنتاج المعنى خارج حدود العقل الصارم.
من منظور علمى: يرى كارل بوبر أن التنجيم لا يمكن اعتباره علمًا لأنه لا يُقدّم فرضيات قابلة للتجريب لكنه مع ذلك لا ينكر أن التنجيم والسحر محاولات أولى لفهم النظام الكونى، قبل تطور الأدوات التجريبية والمنهج العقلى.
كلود ليفى شتروس، قال عن استمرار السحر رغم التطور، إن السحر لغة رمزية تحاول بناء علاقة بين الإنسان والطبيعة، أى بين الروح والمادة، بين الحاضر والمستقبل.
وقال إن هذه الممارسات ليست غبية أو طفولية، بقدر ما هى «منطق بدائى» معقّد يعبّر عن حاجات وجودية عميقة.
ويشير ميشيل فوكو إلى أن الكاهن أو المنجّم كان يحتكر معرفة «الغيب» بالاقتناع الجمعى بالسحر ليؤمّن لنفسه موقعًا اجتماعيًا. ومن جهة الحكام فإن بعضهم استخدم القناعة العامة بالتنجيم لتبرير أفعالهم أو لإضفاء طابع «قدرى» على قراراتهم السياسية.
لكن السؤال المهم الآن هو: كيف ما زال كثير من الفئات الاجتماعية يؤمن بالسحر ويقتنع بالتنجيم حتى مع درجات علمية عالية ودرجة ثقافة هى الأخرى كبيرة؟!