الخميس 9 أكتوبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

من الهمجى حتى إغواء القديس

ميكانيكية «الضوء» على خشبة المسرح

  فى بداية مسرحية (الهمجى)، تمثيل وإخراج محمد صبحى، عندما ينتهى مشهد الصراع بين الإنسان الأول وأخيه، تسقط حزم الضوء الملونة بالأخضر والأحمر على جسد الشهيد (هابيل- المسيح- كل إنسان).



هذا التركيز البصرى يكافئ اتساق علامات النص مثل (الموضوع- الأداء- الديكور الذى يتوارى فى الظل الآن).

وحتى إذا جمد المشهد فى بقعة الضوء، تظل عضويته الإنسانية حية عاملة مع بقية أعضاء العمل المسرحى وتؤثر بشكل متزامن أى فى نفس الوقت فى أى من المواقف المتتالية التالية، كاستجابة لإشارة تسبقها أو تكون سببًا لإشارة تتلوها فى ذات السياق.

مثالًا على ذلك، الحزم الضوئية التى وظفتها المخرجة أكسانا شجونوفا فى عرضها المسرحى (هذا الكأس من الماء لكم) وقدمه طلاب معهد المسرح فى جامعة روسيا.

 

هذه الحزم الضوئية تسقط على الشباب قصدًا لتعبر عن حالات السرور والإخفاق، الإحباط والنشاط؛ بشكل وافق بين سردية الحكاية والرؤية المسرحية لتمكين المشاهد من تلقى (كل) حالة الانسجام بين الممثل والنص المكتوب.

هذه السينوغرافية السلسة تجلت فى رقصة الترانتيلا لنورا فى مسرحية (بيت الدمية) كمعادل بصرى لقلقها وتوقها للفرار عندما فشلت ليندا فى إقناع جروتشتاد بسحب رسالته التى تهددها بكشف سر تزويرها أحد العقود لزوجها هلمر بإمضاء والدها المتوفى.

المُشاهد يرى أقدام نورا بوضوح بينما ترقص بحركات عنيفة.

هى لا ترقص بل تتحرك فى المكان بسرعة لكن بؤرة الضوء جعلتها ترقص بين الأشباح، وطقطقة النار فى المدفأة تعزف مع دقات الدف فى يدها، وشعرها المتحرر المفرود على كتفيها فوق الشال زاهى الألوان يلف جسدها.

هذه المشهدية المسرحية تعبر عن سردية الحكاية: تأتى نورا بدف من أحد الصناديق وتتناول شالًا زاهى الألوان، تلتف به. يجلس رانك إلى البيانو ويبدأ العزف، تعاود نورا الرقص فى عنف أشد بينما يتخذ هيلمر مجلسه على مقربة من المدفأة موجهًا إليها إرشاداته طوال الرقص، ولكن يبدو أنها لا تسمع ما يقول.

يتحرر شعرها مستقرًا فوق كتفيها غير أنها لا تلتفت إليه.) - (هنريك إبسن، بيت دمية، ترجمة كامل يوسف، مكتبة الفنون الدرامية 3، مكتبة مصر، ص 106).

وفى هذا الضوء يتحدد النهج التمثيلى لبطلة المسرحية، فى مقاربة بريختية فى الأداء، وخاصة عندما تعرض موقفها المتناقض على هيئة الرقصة الحائرة فى بؤرة النور، فالشعاع واحد ومركّز لكن الهدف ليس كذلك وإن بدا!

 حذر وتأنى

 

 

اختيار نقطة تركيز الضوء مسألة يجب أخذها بمنتهى الحذر والتأنى، بعد تدوير وإعادة صياغة مفردات السرد السابق واللاحق فى صمت وفى الخفاء.

وعندما يتم طرح سؤال فى ذهن المشاهد، يجب أن يستحضر الإجابة على الفور.

فعلى المخُرج أن يمتلك حرفة التشكيك فى نفسه.

وأن تكون العفوية مجرد أمر جديد عليه.

عندما أوشكت الكاتبة البريطانية هيلارى مانتنل على إعادة صياغة روايتها (وولف هول) لعرضها على خشبة المسرح -وهى أول أديبة تفوز بالبوكر مرتين- راحت هيلارى تكتب من منظور المشهد، وكانت تتأهب بالأيام للخوض داخل ملاحظاتها وجميع مصادرها قبل تركيز الضوء على نقاط بعينها عند عرضها على خشبة المسرح، التزمت بالكتابة كما لو كانت سائرة على خشبة المسرح، كل مشاعرها تدب فيها الحياة، ويتحول الأمر كما لو أنك تصغى بأذنيك لصوت ترانيم.

الأمر أصعب، لكنه أكثر قدرة على تمكين المخرج من تحرير العمل المسرحى، عندما يتعلق بالمونودراما كما عند بيكيت.

«وهنا يصبح لزامًا على الممثل -فى بؤرة الضوء- ألا تكون حركته ذات نظام إشارى آلى لا تنبعث من تفكير وإحساس الشخصية، وإلا أصبحت كإشارات نظام المرور، عندما تشير إلى معان لا حياة فيها، إذ يسمح عسكرى المرور بحركاته الآلية، أن يحدد إشارة مرور المشاة أو العربات السيارة عبر أدواته الجسمية، دونما إحساس للدوافع التى تدفعه لتعيين حركة إشارية دون أخرى لتنظيم المرور، للتكرار اليومى لحركاته المنظمة للمرور.

وهنا يصبح على الممثل أن يحدد عبر بنائه العضوى حركات التعبير لكل جزء من جسمه، على أن تخرج محملة بتفكير وإحساس الشخصية المنوط به تمثيلها، فيما يخصها من حركة تعبيرية بملامح الوجه، أو حركة إيمائية إشارية توكيدية، أو بإيماءات تندرج تحت لوازم الشخصية، دون أن تكون وسيلة اتصالية بالآخر».

ومع أن هذه الأساليب أدخلت لتصبح شيئًا طبيعيًا نوعًا ما فى الممارسات المسرحية السائدة، فقد تم تطوير كثير منها فى البداية كجزء من حقيبة أدوات استخدمها المجددون، وكما بينت إليزابيث عزرا، فقد تم تطوير منهجًا لحشو المناظر وتركيز أجزاء منها، وهو منهج سبق ما تلاه من تطورات.

 

 

وعندما لعب أحد الفنانين قديمًا دور الإمبراطور جونز فى المسرحية التى تحمل الاسم ذاته، كان لابد من اللجوء إلى بؤرة الضوء عدة مرات.

فالإمكانيات الجسمانية للممثل غير متناسبة مع حجم الصراع بالرغم من قوة أدائه كنسق فيزيقى فى الصورة الدرامية، وكان لابد للضوء أن يلعب دورًا فى تكثيف الصراع فى المشهد الواقعى.

من ذلك ما يرتبط بهلاوسه البصرية التى تظهر عندما يتمكن منه ضعف نفسه ورعب وجدانه، ويصبح غير قادر على مواجهة عقله الباطن بعد كل الجرائم الفظيعة التى مارسها فى الآخرين وكذلك علاقة جونز بمن معه من أشخاص آخرين فى الفضاء الدرامى.

ويشرح الدكتور رضا غالب تمهيد النص السردى لتركيز بؤرة الضوء فى هذه المسرحية: يُسمع أصوات لترانيم غير مفهومة، هى تعاويذ لتهدئة روح ما أو غضب إله ما، ينفصل جونز عن الراقصين ويختبئ خلف الصليب ويتابع الراقصين من مكانه فى خوف، ذلك الخوف الذى يدفعه أن يندمج فى أداء الترانيم، مع تمايل جسمه من منطقة الخصر إلى الأمام والخلف فى الرقصة مشاركًا.

يتحرك الساحر فى رقصته إلى منطقة الشجرة بينما مجموعة الطيور تتحرك إلى خلف جونز فى منطقة الصليب، ويشير الساحر بعصاه السحرية إلى فتحة الشجرة فيخرج تباعًا وعلى إيقاع الرقصة كل أشباح جونز السابقين لتشارك فى الرقصة القربانية ويتجه الجميع إلى شاطئ النهر يمدون أذرعهم فى ضراعة نحو النهر وكأنهم ينادون إلهًا قابعًا فيه، ويمتد الضباب الأزرق ليعم النهر تمامًا ويحجب رؤية سطح مياه النهر.

تتوقف الرقصة على صراخ يائس لجونز وينسحب الراقصون على الأجناب، أشباح جونز إلى الجانب الأيمن من المنصة، مجموعة الطيور إلى الجانب الأيسر، ويبقى فى الوسط الساحر وجونز، وعلى دقات التوم توم المتصارعة مع أصوات أجراس كنائسية تتم رقصة جديدة فى جمل حركية مخالفة للرقصة الأولى، تصوِّر الصراع بين البدائية المتمثلة فى الساحر ومجموعة الطيور والعبيد من الزنوج فى جهة، والتحضر فى مجموعة جيف والحارس وقبطان السفينة والقسيس والطفلين فى الجهة المقابلة.

يشارك جونز فى هذه الرقصة حيث يحاول كل طرف جذبه إليه.

ولما كان النصر ليس فى صالح أحد الطرفين، تنضم المجموعتان معًا على نغمات موسيقى تغلف دقات التوم توم وصوت الأجراس، ورغم عنف هذه الصوتيات إلا أنها تكشف أن هناك أملًا فى إتمام طقس التضحية لتنتهى الرقصة بموسيقاها ومؤثراتها، وبالساحر والقسيس يشيران إلى جونز أن يتحرك نحو النهر.

طرق خاصة

  يحتاج الظهور فى بؤرة الضوء من الممثل على المسرح رشاقة استعراضية وتعبيرية خاصة، فحتى لو بدا للجمهور أن الضوء يسقط عفوًا، لا يجب على الممثل أن ينسى أنه كل شيء فى هذه اللحظة وألا يعتمد على الديكور أو المؤثرات فى الأساس، مثل هذه الطبقة المركبة من الأنشطة تمنع أية محاولة هنا لعمل أى شيء أكثر من تقديم إحساس أوّلى بالنص إلى درجة تسمح للمشاهد بالاستكشاف بشكل كامل.

مثال ذلك؛ مسرحية (إغواء القديس أنطونيوس) لفرانك ديل، التى أراد لها أن تكون حالة من التأمل فى الأخلاقيات والسر الإلهى استقاها من مسرحية بنفس الاسم كتبها جوستاف فلوبير عام 1874.

تصور المسرحية ناسكا فى القرن الثالث يتعرض لغواية الشيطان.

صمم المخرج بيتر سيلرز رقصة بين امرأتين تحكى قصة القديس أنطونيوس، تظهر الظلال على الأجناب وتظلم الموجودات فى حواف المشهد المسرحى، وتعبّر الرقصة عن ملاحظات النص السردى حيال الموت والحياة مع عدة زيارات لشخصيات من مسرحية فلوبير هى الشيميرا وهيلاريون وأموناريا.

  وتسقط بؤرة الضوء على بعض الألاعيب السحرية المأخوذة من بيرجمان، وفى القسم الخير عندما تعلن فيليس أنها ستتخلى عن المسرح، فى حين تنظم أونا رحيلًا متعجلًا استجابة لطلب التمثيل من ملك السويد، وتسقط عواميد الضوء على ساحر المسرح الذى يفضح مقابلات متناقضة مع الأخلاقيات المنسوجة باللعب خلال العرض رغبة فى التشوّف والنشوة والتشوّق والانهيار المتكرر.

 

 

 

 هذا فى مقابل المشهد الذى ترتكز عليه بقعة الضوء فى القسم الأول من العرض عند خلط الدنس بالمقدس، والمهم بالتافه إشارة إلى بداية تكامل المبادئ فى نظر القديس، فتطوف النجوم حول رأسه تحت فعل المخدرات، فى تجربة شبه صوفية، وتتداخل مقاطع من أغنية (انسجام الكواكب أعطانى ألمًا حقيقيًا فى الأمثال القديمة) ليسقط ضوء البروجكتور عارضًا صور لامرأة، بينما هو يحرك شفتيه مؤديًا صوته وصوتها، ثم يدخل دافو هو الآخر ويضع شاربًا مستعارًا ويشترك معه فى مغازلة الأفلاك ونشيد الصلوات والدموع وعذاب الجسد والتأمل فى الأسئلة المطلقة والعظيمة حتى تدخل دائرة الضوء امرأة تضع لحية.

هى أموناريا من قصة القديس أنطونيوس، وهو يواصل هلوسته: فى كل مكان، كل مكان هنا، لا حدود، المطلق.

المطلق. لا تصل أبدًا إلى القمة. لن تهبط أبدًا إلى القاع. لأنه ليس هناك قاع. أليس هناك قاع؟ لنر ما إذا كان هناك قاع. هل تريد أن تلقى بالعملة فى الهواء لتعرف أى الوجهين تريد؟

يستمر عرض الفيديو للمرأة وهو يهيم فى أفكاره عن شيء وراء الموت.

قبل أن يتبنى صوتًا نسويًا ليقول: «لعله المظهر هو الحقيقة المطلقة الوحيدة!».

ثم يجيب على نفسه بنفسه بطريقة مخنثة: «نعم، المظهر هو الحقيقة الوحيدة، ويا له من مظهر!».

ويتواصل المشهد تحت دائرة الضوء مازجًا التأمل بالأحاديث الجانبية فى حين تعرض الشاشة فى المنتصف صورًا لأشخاص على سبيل التجريد.

وتستدعى الرمزية لوحة سلفادور دالى الشهيرة (إغواء القديس أنطونيوس 1946) حيث يرفع القديس أنطونيوس صليبًا أمام حصان أبيض يتقدمه، ووراؤه أربعة أفيال تحمل صورًا جسدية، واحدة منها لجذع نسوىفى إطار باب الكاتدرائية من عصر النهضة.

أما آخر مراكز الضوء يتمثل فى شروق الشمس عليهم، والكل يستعد للرحيل.

يُشرق ضوء ساطع فى المنتصف وتزداد العتمة فى الأطراف فلا تظهر سوى حقيقة نهائية بمنتهى البساطة التى يمكن أن يقوم بها كائن أنيق وجميل كهذا.