السيرة الذاتية مغامرة جنونية

منير مطاوع
لماذا لم يكتب إحسان عبدالقدوس مذكراته؟!
أكتب هذه الحكايات والذكريات من الذاكرة واعتمادا على بعض ما أمكن جمعه من مواد وصور، وأترك لنفسى حرية التجوّل فى دوائر الذكرى دون تخطيط مسبق حتى أشعر براحة ومتعة لا تحققها عملية التوثيق الأرشيفية ولا يتحقق معها للقارئ ذلك الشعور بالمتعة والمؤانسة.
ومع أن الحكايات والومضات تتزاحم فى رأسى، ومع أن بعض الأسماء تختفى من شريط الذاكرة بفعل التقادم، وتشابك الأحداث والوقائع والشخصيات والمشاعر، فإن ما يهمنى أكثر هو جوهر كل حكاية أو ومضة أو واقعة.
هذا العنوان مستوحى من مقولة نجيب محفوظ عندما سئل لماذا لا تكتب مذكراتك وسيرتك الذاتية؟
قال: إن فكرة كتابة السيرة الذاتية تراودنى من حين لآخر.
أحيانا تراودنى كسيرة ذاتية بحتة وأخرى تراودنى كسيرة ذاتية روائية، ولكن الالتزام بالحقيقة مطلب خطر ومغامرة جنونية!
هل لهذا لم يترك لنا كاتبنا الكبير، على كثرة ما كتب وأبدع، مذكرات؟..
والسؤال ينطبق على عدد لا بأس به من الشخصيات البارزة فى حياتنا المصرية والعربية، فليست هناك مذكرات لعباس محمود العقاد ولا طه حسين ولا من سبق مثل المازنى أو المنفلوطى أو المويلحى، ولا من لحق مثل فتحى غانم وإحسان عبدالقدوس وأحمد بهاء الدين وغيرهم.
انشغلت فترة بتأمل هذه المسألة خاصة بعد أن قرأت فى فترات متباعدة بعضًا من مذكرات سعد زغلول وتوفيق الحكيم ولويس عوض.. وإنجى أفلاطون.

سعد يعترف!
فى مذكرات الزعيم سعد زغلول قائد ثورة 1919 اعتمد الرجل أعلى قدر من الصدق والمصارحة وكشف عن بعض الجوانب السلبية فى شخصيته مثل إدمانه على القمار.. وهذه شجاعة نادرة.
فتوفيق الحكيم مثلًا فى «زهرة العمر» لم يكتب سيرة ذاتية بقدر ما تجوّل بنا فى أجواء بعض مراحل حياته دون أن يكشف عن حقائق خافية عن تكوينه الشخصى ومناحى ضعفه.
وهذا ما دفعنى حين قرأت «زهرة العمر» وبعض أعماله من المسرح الذهنى وغيرها أن طلبت أن أجرى معه حديثًا كان غرضى هو الحصول منه على معلومات عن حياته وأفكاره لم يرد ذكرها فى سيرته ومذكراته.
لكنه صدمنى بأن طلب منى مبلغ 30 جنيهًا مقابل إجراء الحديث.
وكان هذا المبلغ يساوى مرتبى فى ذلك الوقت.
ومع ذلك فلم يكن لدىَّ اعتراض على حقه فى الحصول على هذا المبلغ مقابل ما سيفضى به من خبرات وأسرار وأفكار.. فقط لم يكن فى مقدورى دفع المبلغ.
والشىء نفسه نجده فى «أيام» طه حسين.
فهى فى الحقيقة ليست إلا حكاية كفاحه بعدما أصيب بالعمى وليس فيها أى نوع من الاعترافات.
فهل نتفق مع الرأى القائل أن مجتمعنا المحافظ يفرض علينا ألا نبوح أو نعترف بفضائحنا أو خبايانا أو نواقصنا، وأن هذا هو السبب فى رفض أعلام كثر كتابة مذكراتهم الشخصية.. لأنها خطر؟!
نعرف طبعًا أن الدكتور لويس عوض وهو قمة فى مجاله الفكرى والثقافى رغم عدم الاتفاق معه فى بعض القضايا مثل نشر اللغة العامية بدلًا من العربية الفصحى ورأيه غير الحكيم فى الوحدة العربية، لكنه فى مذكراته التى صدرت تحت عنوان «أوراق العمر» نجح فى الاعتراف ببعض سلوكيات جنسية فى صباه، واعترف بأنه كان قاسيًا فى موقفه من شقيقه الأصغر وهى شجاعة تحسب له.
كما اعترف بأن والده كان يدمن القمار.
لكن مذكراته تقدم لنا صورة عن الحياة فى المجتمع المصرى فى الزمن الذى عاشه.. وهذه قيمة كبيرة تعود علينا من المذكرات، إضافة إلى أن الصدق فيها يجعلها رصدًا حقيقيًا للتاريخ قد يكون أقوى من كتابات بعض المؤرخين.
عبدالصبور لا يعترف!
ونلاحظ أن إحسان عبدالقدوس ويوسف إدريس وصلاح عبدالصبور وعبدالرحمن الشرقاوى وفتحى غانم وصلاح حافظ وغيرهم كثر، لم يكتبوا مذكراتهم وسيرهم الشخصية وإن كان صلاح عبدالصبور قد تناول جوانب من حياته واهتماماته الأدبية وقصته مع الشعر فى كتب، لكنه لم يكتب سيرة ذاتية تنطوى على اعترافات وكشف للمستور فى دخائل حياته.
ولا هو صور لنا ملامح المجتمع الذى نشأ فيه وعاصره.
وأذكر أن الأستاذ إحسان عبدالقدوس سئل مرة: لماذا لا تكتب مذكراتك؟
قال ما معناه أن هذه ليست مهمتى بل مهمة من يهمهم سيرة حياتي.
ومع ذلك روى بعض لمحات من حياته خلال مقالات وأحاديث صحفية ومنها أن والدته سيدة الصحافة المصرية «روز اليوسف» تحدته فى شبابه أن يقوم بعمل صحفى هو جمع أكبر كمية من الأخبار.
وحكى بطريقة طريفة كيف أقدم على ذلك بأن راح يلتقى وزراء ومسئولين كبارًا ويقول لهم «أمى تريد أخبارًا» فيتضاحكون ويعطفون عليه بما لديهم من الأخبار والأسرار!
وأتذكر الآن الحديث الطويل الذى أجريته مع سعاد حسنى على مدى نحو خمس سنوات، لم يكن ما يمكن أن نطلق عليه «مذكرات» وقد اختلفت مع رءوف توفيق رئيس تحرير «صباح الخير» وكنا قد رتبنا إجراء هذا الحديث الطويل فى محاولة للربط بينها وبين جمهورها الذى غابت عنه بسبب المرض.

ففى تقديمه للحديث الذى نشر مسلسلًا فى «صباح الخير» وصفه بأنه مذكرات.
بينما كتبت فى تقديمى للكتاب الذى ضم الحديث أن هذه ليست مذكرات!
فتقديرى هو أن المذكرات يجب أن تتضمن حقائق ووقائع حدثت لصاحبها وليس بالضرورة أن تكون أمورًا مشرّفة. فقد تكون فضائح أو سلوكيات لا تليق.
أى أن كاتب المذكرات يجب أن يتحلى بالشجاعة الكافية والصدق اللازم، وليس الهروب من الحقيقة.. أو تصفية الحسابات أو ادعاء البطولات.
وأتذكر الآن أن جميلة الجميلات عبّرت لى عن عدم رغبتها فى إجراء هذا الحديث ونشره، لأنها لا تريد أن تبدو كفنانة متقاعدة، فهى راغبة فى العودة إلى جمهورها وإلى الفن.. وهذا ما دعانى أن أوضح لها أننى لن أكتب مذكراتها بل سأتكلم معها عن المستقبل وليس الماضى فقط.. ومن هنا كانت موافقتها.
وقد تردد بعد مصرعها المرعب أن أحدًا وجد مذكراتها.. لكن ذلك كان غير صحيح، فأين هى تلك المذكرات؟!
أول مذكرات فى العالم
ولو عدنا إلى تاريخ كتابة المذكرات والاعترافات، فسنجد أن أولها هى ما كتبه القديس أوغسطين، تلتها اعترافات «جان جاك روسو» وكانت عارية جدًا وفاضحة جدًا، من وجهة نظرنا كشرقيين محافظين بالسليقة، وبأحكام وضغوط المجتمع والعرف والسياسة والدين.
والحقيقة أن هناك سببًا آخر وراء انعدام المذكرات والاعترافات فى حياتنا.. هو تكبيل المجتمع والنظم السياسية والثقافية والدينية للفرد وتحجيم حريته فى حدود لا تسمح له بالتعرى وكشف خفايا وأسرار حياته بلا خوف.
وأتذكر الآن ما حدث مع صديق صحفى عربى كان مديرًا لتحرير أول جريدة عربية فى لندن، فقد التقيته منذ عدة سنوات بعد مرور وقت دون أن نلتقى فأخبرنى أنه يرتب نفسه لكتابة مذكراته.
فسألته: وهل ستمتلك الشجاعة اللازمة التى تتطلبها عملية كتابة السيرة الذاتية؟
ويبدو أننى بسؤالى هذا وضعته فى حوار جاد مع نفسه، انتهى بتراجعه عن حكاية كتابة مذكراته.
أقول هذا بمناسبة ما ردده بعض الأصدقاء من أننى - فى هذه الحكايات - أكتب مذكراتى، وهذا ليس صحيحًا، فليس هذا فى ذهنى، وما أكتبه هنا وأواصل كتابته منذ مارس 2024 تحت هذا العنوان «حكايات 60 سنة صحافة» هو ما يمكن أن نسميه «ذكريات» محورها عملى فى الصحافة طوال حياتى وحتى الآن، إلى ما شاء الله، وفيه بعض الخبرات والملاحظات والتقدير الشخصى لأمور العمل الصحفى وما يحيط به من أجواء ووقائع سياسية، مع استعراض لأبرز الوقائع والشخصيات، بما يفى بما أتطلع إليه من رغبة فى النهوض بهذه المهنة الرسولية من جانب الأجيال الجديدة.
هذا هو ما أرجو أن أكون قد وفقت فيه.
وفى الأسبوع المقبل نواصل