الخميس 25 سبتمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

جريمة أكاديمية الفنون وعقابها

 يمكن  اعتبار رائعة «الجريمة والعقاب» للكاتب الروسى فيودور دوستويفسكى مرجعًا وتحليلًا نفسيًا واجتماعيًا أنثربولوجيًا يليق بكل الأزمنة والأمكنة، وهى تحليل فى النفس البشرية واختياراتها وكيفية تأثير تلك الاختيارات على مصائرها.



وكثيرًا ما تناولت أعمال فنية وعروض مسرحية نص «الجريمة والعقاب» بكل اللغات ومعظم الثقافات، وكل بمنظور مختلف.

 

 

 

ومن هذه التناولات شاهدت على هامش فعاليات مهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبى  عرض «الجريمة والعقاب» على مسرح نهاد صليحة بأكاديمية الفنون، والذى حصل على جائزة لجنة التحكيم الخاصة.

العرض إخراج عماد علوانى تمثيل نغم صالح، عبد الله سعد، كريم أدريانو، مصمم ديكور هشام عادل، مصمم ملابس رحمة عمر، اكسسوارات سهيلة الهواري، تصميم إضاءة وليد درويش، تصميم حركة مناضل عنتر، أشعار محمود البنا، تأليف موسيقى محمد علام.

هذا النص تحديدًا قد يُعد فخًا لصناعه ما لم ينتبهوا لأمور عدة أولها الإطالة والمبالغة والغوص فى عمق الحالة النفسية التى يفرضها العرض على المتفرج، وهو ما لم يحدث على خشبة مسرح نهاد صليحة، فالعرض ثرى وممتع وإيقاعه مرن بشكل كبير. 

 يضع العرض المتفرج فى مواجهة مباشرة مع واحدة من أعقد الروايات الإنسانية التى كتبها الأديب الروسى فيودور دوستويفسكي، قام المخرج عماد علوانى  بنقلها  إلى المتفرج برؤية  تثير أسئلة وجودية عن الضمير والعدالة، اعتمادًا على صياغة النص الأصلى بلغة مسرحية مكثفة راعى فيها الإيقاع  دون الوقوع فى فخ الإطالة.

 فعلى سبيل المثال مشاهد المحقق مع «راسكولنيكوف» كان يكسرها أداء بسيط يحمل لمسة كوميدية طفيفة تكسر هذا العبء وتخفف من وطأته رغم الألعاب النفسية التى يمارسها المحقق ليدفعه للاعتراف. 

الشخصية الرئيسية فى العرض «راسكولنيكوف» قام بتجسيدها عبد الله سعد  ظهرت لتعكس  الصراع الداخلى فى النفس البشرية المُثقلة بين الرغبة فى التمرد على القوانين الإنسانية متحججة بالفقر والعوز، وبين الانكسار أمام ثقل الذنب وتأنيب الضمير،  بعيدًا عن المبالغة، ففى المشاهد التى تكشف هشاشة البطل أمام ما ارتكبه بينه وبين نفسه ومبرراته الواهية التى يخلقها عقله مبررًا فعلته برع الممثل فى تجسيد تلك الانفعالات المتناقضة وحالة الهلوسة التى تنتابه من وطأة ما ارتكبه.

 

 

 

وأضافت نغم صالح لشخصية «سونيا» بعدًا إنسانيًا فكانت بمثابة صوت الضمير، سونيا الفتاة الفقيرة البريئة التى يستغلها كل من حولها ولكنها تتمسك بالإيمان كطوق للنجاة، كما قامت نغم أيضًا بدور ليزافيتا ودور الأم. 

 أما كريم أدريانو فهو صاحب الموهبة الكبيرة فى عدة أدوار فى العرض، فقد قدم  دور المحقّق الذى يمارس ألعابه النفسية على راسكولينكوف لاقتناعه بارتكابه للجريمة من أول لحظة فيحاول الإيقاع به ودفعه للاعتراف كمحلل نفسى درس شخصية راسكولينكوف ودوافعه ومقالاته المنشورة سابقًا التى تبرر لشخص استثنائى - من وجهة نظره ـ ارتكاب جريمة. 

كما قام أدريانو بدور والد سونيا السكير المُعدم الذى يخجل من نفسه كونه يقبل عمل ابنته الساقطة لتصرف على أخواتها وتبتاع له الشراب،  وأخيرًا قام كذلك بدور صديقة أليونا العجوز. 

 على مستوى أدوات العمل جاء الديكور بسيطًا وذا دلالات رمزية كالجدران العالية  والإضاءة التى تعكس الظلام الذى تحمله نفس راسكولينكوف فى ظل صراعه النفسي. 

واعتمد العرض على ديكور من مستويين نشاهد من خلالهما مكتب المحقق وغرفة راسكولينكوف، وفى المستوى الثانى مدخل منزل الضحية أليونا وشقيقتها ليزافيتا، وغرفة راسكولنيكوف الضيقة منخفضة السطح المختنقة كأفكاره ونفسه التى دفعته لجريمته وضاقت به ولم تحتمل ذنبها بعد الجريمة.

 قد يكون العرض مجرد إعادة تقديم لرواية كلاسيكية لكنه جاء قابلًا للقياس على النفس البشرية فى كل الأزمنة وما تخلقه من مبررات لأهداف قد تراها سامية كما فى حالة راسكولنيكوف الطالب المُعدم الذى يورط نفسه فى جريمة قتل ويرى أن غايته تبرر الوسيلة لتحقيق أهداف نبيلة من وجهة نظره وإن فعله يخدم قضية أكبر ويحقق العدالة الاجتماعية من خلال قتله لسمسارة الرهانات الفاسدة عديمة الرحمة، لكن عماد علوانى قدّم النص الكلاسيكى بصورة بالغة الجمال كسرت حدة وقتامة الصورة الكلاسيكية للنص.