
توماس جورجسيان
فى انتظار ما قد يأتى!
أمام ما يحدث وبسرعة فى عالمنا أو مع ما لا يحدث (حتى ولو بعد حين) لا بد أن يصاب المرء المهموم أو المهتم بحيرة وقلق وارتباك. حالة من اللا يقين المتنامى الذى صار يحاصرنا بأسئلته الكثيرة وتوقعاته المتزايدة ليلاً ونهارًا والتى تجعلنا عاجزين عن إيجاد أجوبة بشكل أو آخر للأسئلة التى تفرض نفسها علينا.
أسئلة تخص ما هو قائم الآن أمريكيًا وعالميًا وإقليميًا أو ما هو قادم بعد شوية. وهنا أتفادى استخدام كلمة المستقبل لأن حضوره فى واقعنا المعاش صار أكثر سرعة وأكثر تأثيرًا من ذى قبل. يكفى ما نشاهده ونتابعه من أحداث أمريكا والعالم. أو ما نسمعه ونقرؤه عن حضور الذكاء الاصطناعى الطاغى فى حياتنا وسيناريوهات انتشاره وأدواره فى الأيام المقبلة لكى ينتابنا القلق والخوف. وهذا اللا يقين بالمناسبة لم يعد محدود التأثير أو منحصرًا فى مجال ما أو فى منطقة بعينها كما يتصور أو يتوهم البعض.
ويجب أن أذكر هنا أن ما كتبته فى السطور السابقة كان حصيلة نقاشات وحوارات وقراءات تابعتها فى الأيام الأخيرة. وكان ضروريًا نقلها بالشكل المصاغ لكى أصف بصدق وبدقة ضبابية المشهد السياسى الاجتماعى النفسى الأمريكى وهو يشهد مؤخرًا اغتيال الناشط اليمينى الشاب تشارلى كيرك (31 سنة) وهو المؤثر والمحرك للشباب المتعطش لمن يقوده أو يرشده. وأنا متأكد من أنك قبل قراءة هذه السطور قرأت عشرات من البوستات والتعليقات حوله معه أو ضده. حقائق وأكاذيب معًا!
كيرك وهو فى الـ18 من عمره صار ناشطًا سياسيًا مشهورًا بنشاطه المتميز وأفكاره ومواقفه ولقاءاته مع الآلاف من الشباب على امتداد أمريكا خاصة وسط التجمعات المحافظة والمتمسكة بتعاليم الدين المسيحى. كيرك لعب دورًا حيويًا فى تحريك الشباب المحافظ للتصويت لترامب ووصوله للبيت الأبيض وكان قريبًا منه ومن نائبه فانس تحديدًا.
وهنا يجب التذكير أيضًا أن القضية الأخطر المثارة مع حادث الاغتيال والمدان بالطبع هو العنف السياسى أو الاغتيال السياسى المرفوض وغير المبرر على الإطلاق مضمونًا وشكلاً، خاصة فى مجتمعات مثل أمريكا تسعى للتعايش السلمى وتتطلع للتشاور والحوار ما بين الأطراف المتنازعة وتسمح بالاختلاف وتدين بشدة استعمال العنف والفوضى فى فرض إرادة طرف على الطرف الآخر.وهذا الأمر تحديدًا حرص على ترديده قيادات سياسية وفكرية أمريكية وهى تتعامل بحذر مع ما حدث وما أثير من صخب سياسى وإعلامى مهيمن وكاتم للأصوات العاقلة أو التى تحاول تفادى الصدام المحتمل مع شعللة النقاش وتبادل الاتهامات وترويج الأكاذيب.
ومن ضمن ما طرح كتساؤل ورغبة فى معرفة ما حدث ولماذا؟ كيف تواصل وتفاعل تشارلى كيرك مع الشباب فى الجامعات الأمريكية ولماذا نجح بجدارة فى أن ينال إعجابهم ويحظى بانبهارهم به كما أنه فى نظر البعض صار قديسًا. آلاف بل ملايين منهم شباب وشابات لجأوا إليه فى طرح أسئلتهم الملحّة والبحث عن إجابات شافية لها فيما يقوله كيرك مستشهدًا حسب تعبيره بما يقوله الرب والكتاب المقدس ومرددًا أفكارًا وتفسيرات من التشدد المسيحى.

وحتى لا تختلط الأمور وتؤدى إلى سوء فهم وسوء تفاهم فإن التشدد أو التطرف الدينى درجات، ومن ثم التعبير عن هذا التشدد أو التطرف الدينى كأقوال وأفعال درجات ومستويات مختلفة. وإن كانت فى أغلب الأحوال لا تريد أن تبدى مرونة أو رغبة فى مناقشة الأمر الإلهى أو تفسيره.
كل هذه الأمور طرحت فى الأيام التالية لاغتيال كيرك فى ولاية يوتا واعتقال المتهم بارتكاب الجريمة. ويجب التنبيه هنا أن هوية المتهم ونشأته وخلفيته العائلية جاءت لتجهض ولو لفترة زمنية محدودة كل التوقعات أو التأويلات التى وجهت أصابع الاتهام إلى الراديكاليين أو اليسار أو دعاة التطرف الليبرالى.. أو واحد منهم وليس منا (كما جاء على لسان قيادات يمينية أو جمهورية)، منذ البداية هناك هاجس راود الكثير من المراقبين ولا يزال بأن الرئيس ترامب سوف يجد فيما حدث مبررًا لكى يكثف حملته السياسية والأمنية فى مطاردة جماعات ومنظمات يسارية أو ليبرالية على أساس أنهم كانوا وراء ما حدث لكيرك.
السوشيال ميديا (كما هو الأمر فى الفترة الأخيرة) لها دورها الهدام أو المسموم فى نشر الكراهية والأكاذيب وتأجيج المشاعر وبث العنف وسط ملايين من البشر تأخذهم آليات لوغاريتمات الهواتف الذكية إلى عوالم الانتشاء والانتصار وإقصاء الآخر. ما تابعته بتحفظ وبحذر عما قيل عن كيرك مدحًا كان أم ذمًا.. أكثر وأعقد مما يتصوره عاقل إلا أن هذه المواجهات الافتراضية صارت هى الواقع الذى يعيش فيه المرء ويحتمى فيه وهو يشن هجماته!
الكل يغنى لليلاه.. أو على ليلاه. ومن ثم نقرأ ونسمع ونشاهد المواجهات الحادة بين طرفين يخوضان بشراسة حربًا مقدسة ضد وجود الآخر، حيث لا فرصة لإيجاد أرضية مشتركة قد تقلل من حجم الفجوة التى تفصل بينهما.
ووسط هذا الصخب المسيطر على المشهد يحاول بعض الأقلام أو الأصوات العاقلة أن يسألوا هل هناك مساحة من العقلانية تسمح باختلاف الآراء وتقبلها أيما كانت؟ أم أن الأمور بشكل عام فلتت من زمامها وبالتالى الفوضى هى المنتظر والمحتمل فى رأى الكثيرين. وبالطبع فى تبرير هذا الاستنتاج الكارثى نجد أنفسنا محاصرين بسيناريوهات متوقعة لما يمكن أن يحدث كحرب أهلية تندفع إليها الأطراف المتنازعة.. ولأسباب متباينة وربما لاعتقادها بأن الفوضى فى النهاية يمكن أن تأتى بما تشتهيه سفنها.
وهذه الأجواء القابلة للاشتعال وحالة اللايقين (لمن يهمه الأمر) صارت من أعراض وباء عالمى عابر للقارات.. وعلى المقيمين خارج واشنطن مراعاة فروق التبعات والعواقب التى قد تأتى فى الغد القريب أو البعيد.