الأربعاء 24 سبتمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

طوغان فدائى يرسم الكاريكاتير

أكتب هذه الحكايات والذكريات من الذاكرة واعتمادا على بعض ما أمكن جمعه من مواد وصور، وأترك لنفسى حرية التجوّل فى دوائر الذكرى دون تخطيط مسبق حتى أشعر براحة ومتعة لا تحققها عملية التوثيق الأرشيفية ولا يتحقق معها للقارئ ذلك الشعور بالمتعة والمؤانسة.



ومع أن الحكايات والومضات تتزاحم فى رأسى، ومع أن بعض الأسماء تختفى من شريط الذاكرة بفعل التقادم، وتشابك الأحداث والوقائع والشخصيات والمشاعر، فإن ما يهمنى أكثر هو جوهر كل حكاية أو ومضة أو واقعة.

عرفته قبل سنوات طويلة من مقابلتى له..

 فقد كنت وأنا تلميذ صغير فى العاشرة من عمرى، أطالع رسومه فى جريدة «الجمهورية» فى منتصف الخمسينيات، وكنت أطالع الصحف والمجلات التى يحضرها والدى ويطلب منى ترتيبها فى مكتبة البيت. 

  ومع أنى كنت أشاهد رسومًا كاريكاتيرية كثيرة فى مختلف الصحف إلا أن رسوم طوغان كانت مختلفة، فهو رسام الكاريكاتير السياسى.. ولا يستهدف جعل القارئ  يضحك، لا يرسم «نكتا».. فهو مهموم بقضايا كبيرة، قضايا الحرية واستقلال الشعوب والتخلّص من المستعمرين. ولذلك كان أسلوبه مختلفًا.. فيه جدية وشعور وطنى ودعوة للتفكير. 

عرفت ذلك بالتفصيل فيما بعد، منه ومن صحفيين وكتَّاب ورسامى كاريكاتير آخرين.

 

 وعرفت من بعض ما أتيح لى الاطلاع عليه من كتبه وقد تميَّز عن كثيرين من رفاقه وتلاميذه من رسامى الكاريكاتير بأنه صاحب أكبر عدد من الكتب 27 كتابًا بعضها تناول فيه مفهومه عن الكفاح الوطنى وذكرياته كفدائى مع جيش تحرير الجزائر وبعضها كان عبارة عن تجميع لرسومه.

والحقيقة المدهشة فعلا هو أنه رسام الكاريكاتير الوحيد تقريبًا الذى كان فى سنوات الخمسينيات من القرن العشرين.. يقدم كل يوم كاريكاتيرًا جديدًا. 

 

 

 

أما عن الكتب فيكفى أن نراجع بعض عناوينها لنعرف من هو الفنان الفدائى أحمد ثابت طوغان:

 قضايا الشعوب ــ مع الناس ــ كاريكاتير طوغان (عدة كتب تضم رسومه فى مراحل مختلفة) ــ أيام المجد فى وهران ــ قضية فلسطين ــ يوميات رسام كاريكاتير.

وحتى آخر أيام حياته فى نوفمبر سنة 2014 كان يكتب.. ويصدر كتابًا عن حياته وكفاحه.. بعنوان «سيرة فنان صنعته الآلام». 

تمصير الكاريكاتير

وبتتبع حكايته مع الكاريكاتير الذى كان واحدًا من رواد تمصيره ــ بعد أن كان الجيل الأول يتكون من فنانين متمصرين، منهم التركى والفرنسى والإسبانى والأرمنى- نجد أنه بدأ رسومه فى شبابه ليس على صفحات الصحف والمجلات، ولكن على جدران البيوت.

كان يرسم بالطباشير على الحيطان لوحات تسخر من الإنجليز الذين كانوا يستعمرون مصر فى ذلك الوقت (منتصف أربعينيات القرن الماضي).

ولما عرفه  السعدنى لأول  رسام كاريكاتير مصرى أبًا عن جد هو الفنان الرائد الكبير «عبد المنعم رخا» رحب به وتنبأ له بمستقبل باهر فى عالم الكاريكاتير. 

أدهشنى فى لقائنا الأول قبل أكثر من ثلاثين عامًا، تواضعه الشديد رغم تميزه وريادته، كما لفتنى هدوؤه وإحساسه بالشباب رغم كل هذا العمر، فقد كان على مشارف الخمسين على ما أعتقد. 

ومن خلال هذا اللقاء عرفت أنه كان مشغولا طوال حياته بالمساهمة فى الثورات الشعبية كفدائى.

وشارك فى ثورة الجزائر وثورة الكونغو وثورة اليمن ليس كرسام فقط ولكن كمجاهد وفدائى.. وعاش فترات فى هذه البلدان وغيرها ورصد خبرته فى كتب.

وعرفت أنه كان رسام الكاريكاتير السياسى الأول لجريدة «الجمهورية» منذ إطلاقها سنة 1953 بعدما اختاره أنور السادات تصدر «الجمهورية» مستشارًا فنيًا.

وعرفت أنه خلال مشاركته فى النضال الثورى تعرّف على وصادق شخصيات بارزة مثل تشى جيفارا وأحمد بن بلا وغيرهما.

إسرائيل إلى زوال

ومعروف عنه أنه عروبى الهوية يؤمن بأن العرب أمة واحدة وأن وحدتها قائمة ولا يمكن القضاء عليها.

ومنذ منتصف الأربعينيات كان يساند شعب فلسطين ويعتبر إسرائيل كيانًا دخيلًا مصطنعًا ومصيره إلى الزوال، ولذلك اعتبرته دولة الكيان الصهيونى من ألد أعدائها منذ قيامها، متهمة إياه بمعاداة السامية وهى تهمة غبية إذا وجهت لمصرى أو عربى، لأن كل العرب ساميون!

والمتابع لأعمال طوغان سيلاحظ أنه يولى قضية فلسطين وقضايا تحرير الإنسان اهتمامًا خاصًا فى رسومه وكتبه. ومن كتبه وأحاديثه تستوقفنى وقائع تكشف عن عمق تكوينه الفكرى والسياسي.

فهو مثلا كان من الدعاة إلى الثورة ضد النظام الملكى وضد الاحتلال البريطانى وقد شارك فى حملات صحفية تدعو للثورة فى عدة صحف منها «الجمهور المصرى» لصاحبها ورئيس تحريرها الصحفى الوطنى أبو الخير نجيب. 

وعندما قامت ثورة يوليو 1952 كان من أشد المؤيدين لها والمؤمنين بها، ولهذا شارك مع حشد من زملائه الفنانين والكتاب فى إصدار جريدة «الجمهورية» وعمل لمدة ستة أشهر فى الإعداد لإصدارها باعتبارها جريدة الثورة وساعده أنور السادات.

وكانا قد التقيا وتعارفا فى منتصف الأربعينيات قبل الثورة بثمانى سنوات تقريبا حيث كانا من رواد «قهوة عبدالله» فى الجيزة التى جمعت الكثير من المثقفين والكتاب والفنانين الوطنيين كيوسف إدريس وزكريا الحجاوى وصلاح جاهين وعباس الأسوانى.

واختفى السادات فترة..

وعند قيام الثورة اكتشف طوغان أن السادات هو أحد الضباط الأحرار! إذ لم يكن يعرف ذلك من قبل. لكن بعد انتقال صديقه أنور السادات لإدارة المؤتمر الإسلامى واجه طوغان أزمة مع صلاح سالم الذى تولى إدارة دار التحرير خلفًا للسادات.

فقد فصله الرجل لمجرد أنه كان صديقًا للسادات.

ومعروف أن صلاح سالم عندما تولى مسئولية الصحافة أغلق العديد من الصحف بدعوى أنها كانت تتقاضى «مصروفات سرية» من الحكومة فاتهمها بأنها ضد الثورة بينما كان بعض هذه الصحف من المبشرين بالثورة والمعارضين للملك والحكومات الفاسدة والمستعمرين الإنجليز. وهو ما أشار إليه طوغان فى عدة مناسبات.

 ومن حكايات هذا الفنان الفدائى الرائد - هل رواها لى بنفسه أم أننى طالعتها فى أحد كتبه - أنه عمل فى صحف عديدة طوال حياته المهنية وأن على أمين دعاه للعمل فى جريدة «الأخبار» فالتحق بها قبل إطلاقها سنة 1951 ومنحه راتبًا كبيرًا هو 80 جنيهًا بينما كان آخر راتب يتقاضاه قبلها هو 12 جنيهًا فقط.

واستمر فى العمل فى الجريدة الجديدة لسنة ونصف السنة فقط، مع أن على أمين كان محتفيًا به كرسام كاريكاتير متميز.

فلماذا ترك العمل رغم الـ80 جنيهًا؟ 

يحكى طوغان تفاصيل الواقعة ويجيب عن السؤال: لا أحب أن تملى عليّ أفكار لرسومى، أريد دائمًا أن أكون حرًا فى تفكيرى، وعندما صمّم على أمين على فرض فكرة لا تعجبني.. تركت العمل فورًا.

تحليل أسلوب الفنان

وقد قرأت بحثًا كتبه الدكتور شاكر عبدالحميد وزير الثقافة الأسبق سنة 2013 أحتفظ به لأنه أفضل وصف لأسلوب هذا الرائد الكبير جاء فيه: تعمل حواس الفنان بطريقة انتقائية، فليس كل ما تتلقاه يصلح مادة للعمل، إنه ينتقى ما يتفق مع قيمه ومواقفه فى الحياة، يتلقى الأخبار والموضوعات والمثيرات المتنوعة التى يقدمها العالم إليه فى كل يوم، بل كل لحظة، ثم يدمج ذلك كله معًا، ويعايشه، ويحاول صياغته بشكل إبداعى دال وفريد.

 

 

 

هنا مبدع فى فن الكاريكاتير، تخزن ذاكرته ملامح الأشخاص وطرائق كلامهم وتعبيرات وجوههم وإشارات أيديهم وأعضائهم الأخرى، وكذلك طرائقهم فى الحكى والمشى والنظر والتفكير والخداع، وهو يمزج ذلك كله أيضًا مع التغيُّرات التى طرأت على الواقع والمجتمع والعالم والحياة.

 ثم إنه يحاول أن ينظم ذلك كله بشكل يتناسب مع إيقاعه الشخصى، فالبعض من الفنانين يرسم بسرعة والآخر ببطء، وطوغان فى رأيى - وقد أكون مخطئًا - من النوع المتسم بالإيقاع السريع فى الرسم، فهو يلاحق الأحداث لحظة بلحظة ويكاد يرسم كل يوم، وربما أكثر من لوحة فى اليوم الواحد، وعلى مدى تجاوز الستين عامًا، فهو يجسد مسيرة إبداعية خصبة متواصلة جديرة بالإعجاب.

 

وفى الأسبوع المقبل نواصل