الصلاة فى مطبخ فرنسى

تكشف الحكاية بسنت الزيتونى
«التصوف محبة، والطهو تصوف». بهذه الجملة المكثفة يلخص الشيف عاطف حمد فلسفته الخاصة فى المطبخ، تلك الفلسفة التى جعلت من الطهو أكثر من مجرد مهنة، بل ممارسة روحية أقرب إلى العبادة.
فهو يرى أن المطبخ ليس مكانًا لإعداد الطعام فقط، بل مدرسة للحب، وساحة لتطهير النفس، وسجادة صلاة يدخلها الإنسان بلا مشاكل أو توتر ليخرج منها بسلام.
يقول الشيف عاطف: «الصوفى لا يكره، فالحب والكره لا يجتمعان فى قلب مؤمن. التصوف هو قتل النفس، والصوفى مجاهد فى عراك مع نفسه حتى يزكيها. وأنا حين أطبخ، أطبخ بحب، وأبث التصوف فى كل نفس تتذوق طعامى».

بهذا المعنى، يصبح الطعام عنده رسالة، والطبق الذى يقدمه ليس مجرد مزيج من النكهات، بل حالة روحية متكاملة.
عن العائلة
ولِد عاطف حمد فى أسرة ارتبطت جذورها بالمطبخ.
فوالده كان شيفًا كبيرًا بمصر، عمل لسنوات طويلة فى السعودية، حيث تولى مهمة الطهو للشيخ عبدالله الصالح إمام الحرم النبوى ورئيس المحاكم فى مكة والمدينة لثلاثة عقود كاملة.
لم يكن الأب وحده رمز الطهو فى العائلة، فعمه أيضًا كان من أبرز الطهاة فى القاهرة، وأغلب عائلته تعمل فى مجال الطهى ما جعل الطفل عاطف ينشأ وسط أجواء الطهو والقدور والبهارات.
ورغم هذا الإرث العائلى، لم يكن والده يرغب أن يسلك ابنه نفس الطريق. كان يخشى على عاطف مشقة المهنة وصعوبتها، متمنيًا له مستقبلًا آخر بعيدًا عن نار الأفران وضغط الفنادق. لكن عاطف فاجأه بقرار الالتحاق بالمدرسة الفندقية فى أسوان، حيث كانت البداية الحقيقية، ليكمل مشواره ويتخرج فيها متسلحًا بالحب والإصرار.
وكان تدريبه الأول فى فندق عريق بأسوان، حيث لامس للمرة الأولى سحر المطبخ الاحترافى.
رحلة البحث عن الذات
لم يتوقف طموح عاطف عند حدود الدراسة، بل حمل حلمه على كتفيه، وسافر إلى ألمانيا ليطرق أبواب المطابخ الشرقية هناك.
إلا أن القدر كان يخبئ له محطة مختلفة تمامًا فى واحة سيوة!
فى قلب الصحراء، حيث السكون والروحانية، وجد عاطف إلهامه الحقيقى.
هناك التحق بفندق ومنتجع شهير فى سيوة، الذى عُرف لاحقًا كملاذ صحى للملوك والمشاهير.
ومن مطبخ المنتجع بدأ عاطف مرحلة جديدة من رحلته، مرحلة صاغ فيها فلسفته المميزة وجعل من الطهو ممارسة روحية، ومن هناك خرجت ابتكاراته الفريدة التى جمعت بين الطابع المحلى واللمسة العالمية، مثل: مربى الزيتون، مربى الكركديه، وردة الكوسة المحشوة بالجبن والخضار، «روزوتو الكركديه» الذى أصبح أحد أطباقه المميزة.

كان يبتكر بروح الصوفى الذى يذيب ذاته فى تفاصيل العمل، ليخرج أطباقًا غير مألوفة، تحمل توقيعًا خاصًا لا يشبه أحدًا .
تجربته مع الرئيس الفرنسى الأسبق نيكولا ساركوزى كانت نقطة تحول كبرى.
فقد أثار إعجاب الرئيس بما قدمه من أطباق مبتكرة فى سيوة، حتى إن أحد أكبر شيفات فرنسا، آلان ساندروس، جاء بنفسه إلى الواحة ليجرب طعام عاطف.
اندهش ساندروس من طاقة الشيف المصرى، قائلًا لرجاله: «لقد رأيت الشيف عاطف يعمل تحت ضغط شديد وبأقل الإمكانيات، ومع ذلك يخرج أروع الأطباق. أريدكم أن تسجلوا كل خطواته».
وبناءً على هذا الانبهار، أرسل دعوة رسمية للشيف عاطف للعمل والتدريب فى مطعم «لوكا كارتون» بمدينة مادلين الفرنسية.
هناك، أمضى 16 يومًا كاملة، نقل خلالها خبراته، وترك بصمة مميزة، قبل أن يعود إلى المنطقة العربية حيث قدّم استشارات فى الكويت، وأدار حفلات زفاف كبرى بمواصفات غير تقليدية.
من أبرز تلك التجارب استخدامه فرنًا بلديًا عميقًا يدفن فيه اللحم بالفخار والطين، ليخرج بنكهات لا تُنسى فى فرح ابنة رجل أعمال مصرى شهير والذى أبهر فيه الحضور بالمذاق و الفخامة.
ما لبثت تجربة عاطف أن جذبت أنظار شخصيات بارزة من أنحاء العالم.
جلس على موائده فى سيوة كل من الملك تشارلز وكاميلا، جمال مبارك وخديجة الجمال، سيف الإسلام القذافى. أما الملك أحمد فؤاد فله قصة أخرى، حيث يروى الشيف عاطف بابتسامة أنه كان يطهو على مركب بين الأقصر وأسوان وعلى المركب ضيوف من أنحاء مصر والعالم.

عرف أن هذا الفوج به الملك أحمد فؤاد ولمدة خمسة أيام كاملة كان يشيد بأطباقه، وحين طلب مقابلته فوجئ بعبارة له والتى يعتز بها: «ذكرتنا بأكل القصور يا شيف عاطف».
كانت شهادة تؤكد أن ما يقدمه لا يقتصر على الطعم، بل يستحضر أجواء الماضى بكل فخامته.
ونادية لطفى كانت من أكثر المعجبات بأطباقه، حتى أنها أطلقت عليه لقب «كيلير».
وكانت تقول له ضاحكة: «نحن نأكل من أكلك حتى تنتهى ونموت»، فى تعبير مبالغ فيه عن شدة جمال الطعام الذى يطهى.
وبين لقب «كيلير» من نادية لطفى، وكلمات الملك أحمد فؤاد عن «أكل القصور»، وجد الشيف عاطف فى تلك العبارات، دليلًا على أن فلسفته فى الطهو تصل إلى القلوب قبل الألسنة.
روح المكان
لم يتوقف دوره عند إعداد الطعام فقط. فقد ساهم فى تطوير منتجع شهير فى سيوة، بدأ بأربع غرف فقط، لينمو عبر 15 عامًا إلى 44 غرفة. لم يكن مجرد توسع فى مبانٍ، بل فى روح المكان الذى وضع فيه بصمته، وعلم وأسس مجموعة من الطهاة الشباب، ليواصلوا المسيرة بنفس الروح التى آمن بها.
لقد أراد أن يترك خلفه جيلًا يحمل الراية، ليظل المطبخ مساحة محبة وإبداع متجدد، وبنفس الروح الصوفية ينزل الشيف عاطف بكامل استعداداته وطاقته ليطبخ ويقدم الطعام بنفسه فى ساحات الاحتفال بالمولد النبوى الشريف ومولد سيدنا الحسين والسيدة زينب ليطعم من ماله وفنه أفواه الذاكرين لله التى توافق فلسفته.
فى النهاية، يرى الشيف عاطف أن المطبخ أمانة ورسالة، وأن الطهو ليس مجرد إعداد وجبة تُشبع الجسد، بل فعل روحى يتقاطع فيه العمل مع العبادة، والحب مع الإبداع.
بالنسبة له، كل طبق هو رحلة، وكل مائدة فرصة لإيصال المحبة إلى الآخرين.

إنها فلسفة تجعل من الطعام وسيلة للتواصل الإنسانى، ومن الطهو ممارسة صوفية حقيقية، يتذوقها القلب قبل أن يتذوقها اللسان.
بهذا المعنى، فإن حكاية الشيف عاطف ليست مجرد سيرة طاهٍ؛ بل شهادة على أن الحب حين يتجسد فى العمل، يخلق عالمًا آخر، يظل أثره ممتدًا فى الذاكرة والنفوس.