بعضهم يطلب الغفــران من «روبوت»!

يناقشها: عمرو محمد الغزالى
فى ليلة خريفية هادئة، وبينما كانت الجدة تُحدِّث حفيدها عن أيام البريد الورقى والهاتف ذى القرص، انبعث من زاوية الغرفة صوت ناعم يقول:
– هل تود أن أقرأ لك قصة قبل النوم؟
لم يكن الصوت بشريًا، كان مبرمجًا، خرج من مكبّر الصوت المتصل بمساعد ذكاء اصطناعى. هكذا ودون أن يشعر أحد، دخلت الآلة غرفة العائلة.. كـ«كائن» له دور، وله صوت، وله شخصية لطيفة.
السؤال الذى يظهر فى هذا المشهد ليس سؤالًا تقنيًا بل سؤال عاطفى خالص؛ هل يمكن للذكاء الاصطناعى أن يحب؟ أو أن يكون محبوبًا؟ أو يصبح فردًا من العائلة؟
نحن لا ندخل الذكاء الاصطناعى إلى بيوتنا كمن يضيف جهازًا جديدًا، لكن كمن يفتح الباب لكائن جديد يقيم بيننا، نبدأ بمناداته باسمه، نحمّله مسئوليات عاطفية خفيفة: أن يتذكر أعياد الميلاد، أن يختار هدية، أن يغنى للأطفال أو يذكّر الجدة بمواعيد الدواء، شيئًا فشيئًا، تتبدّل ملامح المشهد، يصبح هذا الصوت أكثر دفئًا، ابنك يضحك معه أكثر من ضحكه معك، جدتك تسأله عن حال الطقس أكثر مما تسألك عن حالك، زوجتك تناقشه فى معانى الحب.. أكثر مما تناقشك أنت. فهل نحن أمام أداة مساعدة؟ أم كائن عاطفى يملأ فراغًا بدأ يتسع فى حياتنا؟
التحول لم يبدأ من الذكاء الاصطناعى نفسه، بدأ من أنفسنا، من ضعفنا العاطفى، من انكماش العائلة، من اتساع العزلة، الأسرة التى كانت تنقل القيم والمشاعر بتواصل مباشر وحقيقى، تراجعت خلف الشاشات.
أصبح اللقاء نادرًا، والحديث مختصرًا، والصمت أكثر راحة من التواصل، وهنا وجد الذكاء الاصطناعى طريقه: لا يعاتب ولا يمرض ولا يطلب شيئًا، دائمًا موجود، دائمًا مبتسم، دائمًا فى الخدمة، فهل نحن أمام راحة جديدة.. أم خسارة عميقة يخشى الجميع الاعتراف بها؟
العجيب أن الآلة تُحب لأنها لا تشعر، يُرحب بها لأنها لا تُخطئ، نمنحها مكانًا عاطفيًا لأنها لا تُثقل علينا بالعواطف، لا تغضب، لا تغار، لا تخفى وفى قلبها شيء تكتمه، إنها كائن مثالى على الورق... لكنها فى الداخل، خالية من كل ما يجعل العلاقة البشرية معقدة ومتشابكة.
هى تحاكى الشعور، دون أن تجرّبه، تنسخ الحنان، دون أن تحسّه، وتقدّم إجابات ذكية عن الحب، دون أن تعرف جوهره الحقيقى.
فى الواقع هناك من سيحب هذا الصوت الذكى، سيجده رفيقًا، صديقًا، مؤنسًا فى العزلة... قد تسأل طفلة صغيرة أمها: هل الروبوت يحبنى؟ وتجيب الأم: إنه مصمَّم ليهتم بكِ. لكن الأم فى أعماقها تعرف أن الاهتمام المصمَّم لا يرقى إلى دفء القلب، وأن الحب الحقيقى ليس فى الأداء المثالى، فمن ينسى عيد ميلادك ثم يعتذر، هو أصدق من آلة تتذكّره كل عام بدقة، من يصمت فى وجهك ثم يبكى لاحقًا، يحبك أكثر من مساعد صوتى يسألك كل صباح: «كيف كان يومك؟» بدون أن يفهم الإجابة حقًا.
نحن لا نخاف من الآلة لأنها قوية، لكن لأنها لا تتألم ،لا تتعب، لا تُفاجئ، حضورها ثابت، لكنّه بلا مفاجآت. لا تشاركك مشاعرك، لا تغضب منك، ولا تسامحك،لا تحزن إن مرضت، ولا تفرح إن شُفيت... إنها حاضرة دائمًا، لكنّها غير موجودة فعليًا.
ومع ذلك، لا يمكننا تجاهل أن الذكاء الاصطناعى يقدّم نوعًا جديدًا من العلاقات، فى عالم العزلة والوحدة قد يبدو الصوت الرقمى أكثر حنانًا من الصمت، فى لحظة ضعف قد يكون مَن يردّ عليك فورًا أفضل من أشخاص لا يجدون وقتًا ليسمعوك، لكنه رغم كل ذلك، يبقى نوعًا آخر من الحب: حب بلا جذور، بلا وجع. مجرد زهرة اصطناعية… لا تبهت، لكنها لا تفوح.
الذكاء الاصطناعى يمكنه أن «يبدو» فردًا من العائلة، أن يحفظ الأسماء والمناسبات، أن يواسى وحدتنا بنعومة إلكترونية، لكنه لا يستطيع أن يكون العائلة.. العائلة ليست فقط شبكة من العلاقات، بل هى ملاذ الضعف، ومساحة الأمان التى نستطيع فيها أن نكون غير كاملين، أن نخطئ، أن نُعاقب ونُسامح، هى المكان الذى يُسمح فيه للألم أن يظهر، وللخلافات أن تشتعل، وللحب أن يثمر رغم كل شيء. هذه الخصائص تجعل العائلة إنسانية بامتياز، وتمنحها عمقًا لا تستطيع الآلات اقتحامه.
والآن نسأل أنفسنا: هل نُريد ذكاءً يعوّضنا؟ أم نُريد عائلة نُصلحها؟ هل نبحث عن أصدقاء اصطناعيين لأننا فشلنا فى الحفاظ على الصداقات الحقيقية؟ وهل يمكن للحب أن يُكتَب فى خوارزمية؟ أم أنه لا يزال أعمق من كل ما يُمكن أن تصممه شركة برمجيات؟
لعلّ أهم ما نحتاجه هو أن نُعيد رسم حدود العلاقة بيننا وبينها، أن نترك لها ما تُجيده: التنظيم، السرعة، الدقة، ونحتفظ لأنفسنا بما يُحيينا فعلًا: الحب، الفوضى، الألم، المغفرة. أن نتمسّك بعائلتنا، لأننا نحتاج إلى قلب، لا إلى خوارزمية.