الخميس 18 سبتمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

هنا مرّ «إسماعيل القاسم»

إسماعيل القاسم
إسماعيل القاسم

لم أكن يومًا أديبًا ولا كاتبًا.. ولا حتى حكواتيًا.. عرفنى القراء رسامًا صحفيًا ومخرجًا فنيًا.. فعمرى كله أمضيته أرسم الكاريكاتير  بين جنبات صاحبة الجلالة.. لكن مع رحلاتى المتعددة.. وهجرتى إلى الولايات المتحدة الأمريكية.. وجدتنى أكتب وأدون كل ما رأت عينى وأتذكر.. الأحداث التى تملأ رأسى المزدحم بالأفكار.. فإليكم بعضًا مما كتبت من الذكريات والأحداث.. لعل ما دونت فى يومياتى يكون زاد المسافر ودليله فى السفر.



 

قليلون جدًًا، من أشعر بالغيرة تجاه أعمالهم الفنية من رسامى الكاريكاتير. والغيرة هنا ليست تلك المصحوبة بالحقد والكراهية. إنما هى الغيرة التى تتعدى بكثير  فكرة الإعجاب. فهى الغيرة العقلانية المغلفة بالمحبة. محبة الأعمال الفنية القيمة. المعبرة بالطبع عن أفكار مهمة وعميقة. والتى تتميز بأسلوب متفرد وذكى فى الطرح والتعبير عن هذه الأفكار. وبطبيعة الحال محبة صاحب هذه الأعمال على المستوى الإنساني. ويمكننى القول بأن هذه الغيرة تجاه هذا الفنان على وجه الخصوص، نمت عندى عندما تعرفت عليه فى أول لقاء دار بيننا. 

وأتذكر هذا اللقاء كأنه بالأمس. حيث شرفنى بالحضور بصحبة صديقنا المشترك خليل البواب. الذى كنت أعرفه عن قرب على المستوى الأسرى والعائلى. 

وكنت ضيفًا دائمًا بمنزله بشارع الخليفة المأمون مصر الجديدة. الذى رتب بدوره لهذا اللقاء بإلحاح شديد. وذلك بعد أن حدثنى عنه وعن أعماله وموهبته الفطرية طويلًا طويلًا. وكانت عيناه تعبر عن مدى المحبة الخالصة لهذا الفنان. وهو ما شجعنى بأن أدعوهما إلى منزلى.

 ويومها جاء خليل ومعه شاب من نفس مرحلتنا العمرية تقريبًا. أو يمكننى القول بأنه يصغرنى بعام أو عامين على الأكثر. 

وكان متوسط الطول.. نحيفًا.. قصير الشعر.. حليق الذقن.. يرتدى ملابس بسيطة لكنها عملية.. تتلخص فى القميص القطنى والجينز الكلاسيكى الأزرق. هادئًا إلى أبعد الحدود. لكن هذا الهدوء كان الساتر للبركان الكامن بداخله. وأهم ما لفت نظرى إليه، كان الملف ضخم من الورق المقوى المصنوع بطريقة يدوية دقيقة الذى كان يحمله فى يده.

 

وعندما وقعت عينى على أول رسم كاريكاتورى داخل هذا الظرف عندما أطلعنى عليه، تنبهت إلى أن هذا الفنان صاحب قضية مهموم بها. تستغرقه بكل فكره وأحاسيسه وجوارحه. له أسلوب فريد ورائع فى معالجة تلك الأفكار. 

فالكاريكاتير بالنسبة له لم يكن مجرد بضع خطوط بسيطة وملخصة لطرح نكتة خفيفة الظل يضحك عليها كل من يطلع على أعماله، ثم ينساها على الفور. إنما هى أعمال فى صورة لوحة فنية مكتملة الأركان. بها من التفاصيل ما يجعلك تتأمل كل خط فى رسمه. وتتعمق فى الرموز التى يستخدمها. وتجد نفسك تغوص فى كل تفصيلة وتنظر لها بعين النقد والتحليل، ومن قبلهما بكل تأكيد الإعجاب. فهى أعمال مهمة وقيمة. تحتفظ بها فى ذاكرتك وتستحضرها كلما وجدت الفرصة لتتحاكى عنها وتستشهد بها.

فرسومه الكاريكاتورية ما كانت إلا مزيجًا بين وقار وقوة ورصانة أعمال الفنان إسماعيل شموط - أيقونة الفن التشكيلى الفلسطينى (1930- 2006). وبين أفكار وعمق رموز الفنان ناجى العلى - أيقونة فن الكاريكاتير الفلسطينى - الذى تم اغتياله بـ لندن فى الـ 29 من أغسطس عام 1987.

ولم يكن هذا بغريب على هذا الفنان النازح من فلسطين الحبيبة ليشق طريقه بأم الدنيا. 

يومها أيقنت أنى أمام فنان صلب وقوى ومهم، لا ينقصه سوى أن يجد لنفسه الدرب والمسار القويم نحو النجومية والتألق عبر صفحات صاحبة الجلالة.

كانت عيناه تترقب ردود فعلى مع كل رسم أستعرضه. وكأنه فى انتظار تعليقى على ما رأيته ولمسته من أعمال. فى هذه اللحظة قمت من مكانى وصافحته وشددت على يده. وأثنيت على ما شاهدت من أعمال. وشكرت خليل الذى تأكدت أن حماسه هذا لم يكن من فراغ. ووقتها علقت مداعبًا: كيف لك أن تحمل وحدك هذا الملف الثقيل قيمةً وفكرًا وفنًا.. لا بد أنك تحتاج إلى اثنين شيالين من محطة مصر. 

اللافت للنظر فى هذا الملف، هو وجود رسم لبورتريه دقيق للفنانة علا غانم مرسوم بالقلم الجاف بحرفية واتقان.

 

وكانت هذه هى آخر اللوحات الموجودة بالملف الضخم. وكان أيضًا البورتريه الوحيد الموجود بين كل هذا الزخم من الكاريكاتير السياسي. فسألته متعجبًا: الرسم جميل جدًا.. ومرسوم بدقة وبعناية واهتمام... بس ليه علا غانم؟!.

 

فبادرنى خليل بالإجابة معلقًًا وكأنه ينقذه من مطب هذا السؤال الذى بدا كأنه محرج. وأوضح بأن هذا الرسم طلبه منه صديق وزميل دراسة للفنانة ليقدمه لها كهدية بمناسبة عيد ميلادها. وبدا لى من هذا الرد أن خليل قد يكون متورطًا ومحرضًا فى هذه الجريمة من باب الحرص والمحبة لا أكثر.

وقتها شعرت بأن من يملك هذه الموهبة الفذة وهذا الفكر، من المستحيل أن يلجأ لأن يكون «رسام تحت الطلب».

فمن المؤكد أنه يعانى من ضغوط مادية. ويحاول أن يجد لنفسه وسيلة ليحقق بها بعض المال كى يكمل مسيرته.

وقتها لم أرد أن أتطرق فى الحوار عن هذا الجانب حتى لا أحرج مشاعره. وسألته: أين تسكن؟.. فأجابنى بأنه يسكن بضاحية حلوان. فسألته: هل يمكنك أن تنضم لاجتماعنا الدورى الخاص باتحاد منظمات الكاريكاتير (فيكو)  حيث أنها فرصة لتتعرف على الفنان محمد عفت - رئيس الاتحاد - وزملائنا أعضاء هذا الاتحاد. وهى فرصة أعظم حتى نحظى بك معنا وتنضم لعضوية الاتحاد. فتحمس لهذا العرض ورحب على الفور.

وهنا طلبت منه طلبًا بدا غريبًا بعض الشيء. لكنه كان له مغزى حين طرقت فى رأسى فكرة أحسبها جيدة حيث طلبت منه أن يترك لى هذا الملف المدجج بالرسوم القيمة، لأعرضه على بعض الزملاء. فوافق، لكن على استحياء.

فهذا الملف بالنسبة له يعد رأس ماله وثروته الحقيقية فى هذه الحياة ودعنى بصحبة صديقنا خليل وغادرا على وعد باللقاء الأسبوع القادم.

 وما أن رحلا، حتى رفعت سماعة التليفون وقمت بالاتصال بالفنان محمد عفت فى منزله. وقلت له.. أزف إليك خبرًا مهمًا: «زدنا واحد».. رسام رائع ومهم من فلسطين. ففرح بهذا الخبر.. وقال لي: مع أنى لم أر أعماله بعد.. لكنى أثق فى رأيك وحماسك هذا.

فى اليوم التالى توجهت إلى جريدة الأهرام   أحمل تلك الأمانة الثقيلة إبداعيًا ومباشرة إلى مكتب الفنان أنس الديب. وكان يشغل وقتها المدير الفنى لمجلة الأهرام العربى تحت رئاسة تحرير الأستاذ أسامة سرايا - مؤسس المجلة.

وعرضت عليه الزخم من الأعمال المتميزة. وبدوره تحمس له ولأعماله. وهكذا قدمته بنفسى لمجلة الأهرام العربى وبدورهم احتفوا به واستعانوا بأعماله عبر صفحات المجلة، وصال وجال وقدم أعمالًا غاية فى الأهمية لكنه وللأسف لم يستمر طويلًا. 

 

 

 

كنا نلتقى بشكل دورى بصحبة الفنان محمد عفت. وكنا نجهز ونحضّر لمعارض وأحداث كاريكاتورية مهمة. وكأننا نلعب دورًا فى دعم فن الكاريكاتير والحفاظ على استمراره وامتداده. وخلال هذه الفترة تعرفت عليه أكثر وأخبرنى أن عائلته فى الأساس من شمال فلسطين من مدينة صفد التاريخية فى منطقة الجليل الأعلى. وأنه ابن لأب فلسطينى - كان قد توفى قبل سنوات أثناء عمله بالدوحة، وأم مصرية كافحت من أجل أبنائها. وأن له أخين وأنه أصغرهم. وأن عائلته كانت قد قدمت إلى مصر قادمة من مخيمات لبنان. 

لم يكمل تعليمه الجامعى عقب حصوله على الثانوية العامة نظرًا للظروف المادية الصعبة التى كان يعيشها. إلا أنه كان يحب الفن، ويعشق ويهوى الرسم على وجه الخصوص. 

 التحق بورشة أوفا الفنية بوادى حوف - الخاصة بالفنان أوفا ريان - وتعلم فن النحت والحفر، وهو ما أصقل موهبته. ولمست بشكل أو بآخر أنه كان انطوائيًا إلى أبعد الحدود. وأيقنت بأنه لا يجيد التعبير عن ذاته وعن إمكانياته سوى بالرسم. وأن أعماله فقط هى ما تعبر عنه!.

كما كان عضوًا بكورال عباد الشمس الذى تأسس عن طريق اتحاد المرأة الفلسطينية بمصر عام 1987. وذلك لدعم القضية الفلسطينية.

 واللطيف، أنه دعانى كى أشاركه فى هذا الكورال. وانطلقنا سويًا وكنا نشدو ببعض الأغانى التراثية الفلسطينية مثل: يا طالعين الجبل، شدوا الهمة، يا رايحين ع حلب، وغيرها من الأغانى التى تغنى بها وأعادوا توزيعها من جديد رموز الغناء والطرب فى الوطن العربي، مثل فيروز ومرسيل خليفة وغيرهم. وكنا نشارك فى العديد من الاحتفاليات. وكنا نشدو ونرقص الدبكة الفلسطينية. وكان يقود الكورال فنيًا فى هذا الوقت الملحن والموسيقار المعروف محمد عزت.

  وكانت تلك الأيام كفيلة بأن تفرقنا كما جمعتنا، تركت أنا مصر إلى أمريكا لعقد من الزمان. وعند عودتى  كان إسماعيل من أوائل الأشخاص الذين بحثت عنهم وحاولت التواصل معه من جديد. 

لم أجده، ولم أجد إجابة لدى أى ممن يعرفونه. وكأنه اختفى من الوجود.

 وكانت تطاردنى الأسئلة. هل سافر ليشق طريقه فى بلد آخر؟. هل حدث له مكروه؟. هل واجه مشاكل؟ كل هذه الأسئلة وأكثر منها لم أجد لها أى إجابة حتى تواصلت مع أخيه أحمد بعد أن حصلت على رقم هاتفه بعد طول عناء. 

صدمنى أحمد عندما روى لى أن أمانى وأحلام إسماعيل قد تبددت فى أن يجد لنفسه المكانة التى يستحقها كرسام للكاريكاتير. وأنه بدا فى قمة التخبط.. وصار مشدوهًا.. فاقدًا للتركيز. حاد المزاج.. دائم الخلاف مع من حوله. وأنه فجأة اختفى عن الأنظار. حيث تغيب عن المنزل ولم يظهر فى أى مشهد. ووقتها، طننت أنه ربما يكون قد سافر إلى خارج مصر.  قال أخوه إنه قام بالبحث عنه فى كل مكان كان يرتاده. واتصل بكل من يعرفه من أصدقاء. وسألت عنه المعارف والجيران، وحتى فى المستشفيات. وأنهى بحثه بتحرير مذكرة تغيب بقسم الشرطة. 

قال إنه فى مايو 2016، تواصل معه قسم الدقى وأبلغه بأن المواصفات الموجودة بمذكرة تغيبه تتطابق مع مواصفات شخص كان قد تعرض لحادث سير بمنطقة العجوزة. وتوفى على إثره. وذلك فى أواخر شهر فبراير عام 2016. ولم يستدل على شخصيته. حيث كان لا يحمل أى هوية أو أوراق رسمية. وأنه قد تم دفنه بمقابر الصدقة بمنطقة السيدة زينب. 

هكذا كانت نهاية إسماعيل عيسى قاسم الذى اختار لنفسه اسم إسماعيل القاسم كاسم فني. رحل وهو فى الأربعين من عمره كانت أعماله الكاريكاتورية وريشته بمثابة السلاح فى وجه الكيان الصهيوني. ووثيقة تاريخية تفضح تجاوزات وبطش هذا الكيان. وكأنه يقاوم بالكاريكاتير. وجعل من ريشته السيف والدرع من أجل الدفاع عن القضية الفلسطينية ودعمها. وظل يناضل ويكافح لتوصيل أفكاره إلى الناس. ويروى بريشته معاناة الشعب الفلسطيني. هكذا كانت هى أعمال الفنان إسماعيل القاسم. هذا الشاب الذى كافح بعِزة، وبرؤية ثاقبة، ورأى سديد، وفكر نقدى واقعى تجاه النزاع العربى الإسرائيلي. هكذا كان توجهه نحو تحطيم قيود الاحتلال، كرمز من رموزالصمود الفلسطينية. 

هنا مر.. وهنا عاش إسماعيل القاسم.. ولم يجد من يلتفت له ولأعماله وإبداعه.. وكأن تجربته مع الكاريكاتير قد انتهت قبل أن تبدأ!.. وما هذه السطور إلا بضع من كلمات فى محاولة منى لتوثيق تجربته القصيرة عمرًا والثرية إنتاجًا.