1964 سنة لها تــاريخ

منير مطاوع
أكتب هذه الحكايات والذكريات من الذاكرة واعتمادا على بعض ما أمكن جمعه من مواد وصور، وأترك لنفسى حرية التجوّل فى دوائر الذكرى دون تخطيط مسبق حتى أشعر براحة ومتعة لا تحققها عملية التوثيق الأرشيفية ولا يتحقق معها للقارئ ذلك الشعور بالمتعة والمؤانسة.
ومع أن الحكايات والومضات تتزاحم فى رأسى، ومع أن بعض الأسماء تختفى من شريط الذاكرة بفعل التقادم، وتشابك الأحداث والوقائع والشخصيات والمشاعر، فإن ما يهمنى أكثر هو جوهر كل حكاية أو ومضة أو واقعة.
1964 السنة التى التحقت فيها بـ«صباح الخير» كمحرر تحت التمرين.. سنة لها تاريخ.
وهذه مصادفة مثيرة، فهى السنة نفسها التى التحقت فيها بكلية الفنون الجميلة وصالون نجيب محفوظ فى مقهى ريش، ومكتبة الموسيقى الكلاسيكية التى أنشأها يحيى حقى.

إنها سنة لها تاريخ فى حياة مصر وحياتى، فهى حافلة بأحداث مثيرة وكثيرة وفى مجالات الحياة العديدة.
فسياسيًا تم خلالها الإفراج عن الشيوعيين والتقدميين الذين اعتقلوا سنة 1959.. وتم تعيين عشرات منهم فى مناصب ومواقع مهمة فى الصحافة والثقافة والإدارة المحلية وغيرها.
وعاد بعضهم لتولى مناصبهم الصحفية فى «صباح الخير» و«روزاليوسف».
وبدأ فؤاد حداد، أبو شعر العامية المصرية ينشر أشعاره وإبداعاته فى «صباح الخير».
وهى السنة التى سمعنا الزعيم عبدالناصر يتحدث فيها فى خطبه عن ضرورة قيام ثورة جديدة! ويتحدث عن الطبقة الجديدة التى ظهرت وتشكل خطرًا، وهى أيضا - ويجب ألا ننسى – السنة التى شهدت إتمام أول خطة تنمية اقتصادية خمسية بنجاح لافت.
ونمضى مع السياسة فنسجل انعقاد أول مؤتمر قمة عربى فى القاهرة دعا إليه الزعيم جمال عبدالناصر.
كما صدر إعلان دستورى جديد لجمهورية مصر العربية.
وشهدت «السنة التى لها تاريخ» إعلان قيام منظمة التحرير الفلسطينية بزعامة ياسر عرفات، وتم ذلك فى القاهرة، كما شهدت تغيُّرًا ملحوظًا فى السعودية باعتلاء الملك فيصل سدة الحكم.
وتم الاحتفال بانتهاء المرحلة الأولى من مشروع إنشاء السد العالى.. وحضور الزعيم الروسى نيكيتا خروشوف الاحتفال.
كان ذلك فى يناير 1964 وفى أكتوبر جرى انقلاب داخل الحزب الروسى الحاكم وأعفى خروشوف من كل مناصبه!

لقاء السحاب
فى عالم الفن وقع حدث كبير سُمى «لقاء السحاب» بين القمتين أم كلثوم وعبدالوهاب فى أغنية «انت عمرى».
وبالنسبة لنجيب محفوظ فقد نشر رواية «الطريق» فى يناير وتحوّلت إلى فيلم سينمائى فى العام نفسه، وتحوّلت رواية «الأيدى الناعمة» لتوفيق الحكيم إلى فيلم سينمائى بطولة فاتن حمامة وحظى بتقدير كبير.
ورياضيًا شهدت هذه السنة دخول بطل العالم فى الملاكمة الشاب الأمريكى الأسمر «كاسيوس كلاي» الإسلام واختار لنفسه اسم محمد على.. وكان فى عمر 22 سنة.
وشهدت 1964 وفاة أحد أعلام الفكر والأدب فى مصر والعالم العربى عباس محمود العقاد. ووفاة أحد أعلام الفن التشكيلى محمود سعيد، ووفاة الشاعر العراقى الرائد بدر شاكر السياب.
وأحب أن أتحدّث عن شخصية رائعة لم يتيسر لى لقاؤها، هو الفنان التشكيلى المصرى محمود سعيد، صاحب أشهر أعمال فنية معبرة عن الملامح الشعبية المصرية وهى سلسلة لوحات «بنات بحري» التى لا أرى لها شبيهًا فى كل ما نتج من أعمال فنانينا الكبار.
وقد لا يعرف البعض أو الكثيرون أن محمود سعيد كان قاضيًا يحب الفن التشكيلى ويحب مدينته الإسكندرية ومع إنه ابن رئيس وزراء سابق، إلا أن ذلك لم يعطله عن التواصل والارتباط والتعبير عن الحياة الشعبية المصرية. وكان محمود سعيد أول فنان تشكيلى يحصل على جائزة الدولة التقديرية.
«الفرافير»
1964هى السنة التى شهدت بداية انطلاقة كبيرة للمسرح المصرى فشاهدنا الفرافير ليوسف إدريس وعيلة الدوغرى لنعمان عاشور وسليمان الحلبى لألفريد فرج وبير السلم لسعد الدين وهبة والفتى مهران لعبدالرحمن الشرقاوى.
وأتوقف عند الحدث الذى أثار أكبر اهتمام فى عالم المسرح فى ذلك الوقت وهو ما يعتبر بداية مبكرة لقيام مسرح مصرى يستمد ملامحه من تراث وحياة المصريين وخاصة أجواء السامر الشعبى التى يعرفها الريف المصري، وهو مبادرة يوسف إدريس المسماة «الفرافير»، شاهدت العرض المسرحى المختلف تمامًا عما نراه على خشبة أى مسرح آخر، مغامرة فنية رائدة مثيرة للتأمل والتفكير وإعادة النظر فى كل شيء تقريبًا.. وتابعها الجمهور بتفاعل وتجاوب غير مسبوقين أما النقاد وأساتذة المسرح وفنانوه فكانت «الفرافير» موضع اهتمام ومناقشة.

كانت حدثًا كبيرًا فى عالم المسرح تفجر فى ربيع هذا العام الذى لا يُنسَى.
لقد كانت هذه المسرحية هى أول محاولة لتطبيق ما نادى به يوسف إدريس من ضرورة خلق مسرح يخصنا والتخلى عن الشكل السائد للمسرح، المعروف فى الغرب لأنه يعود إلى أصول إغريقية وأوروبية وغربية.. والبحث عن شكل مصرى من تراثنا وثقافتنا وهو «السامر».
صحيح أن «الفرافير» ازدحمت بأفكار وأسئلة لا إجابات محددة لها، لكنها مثيرة للتفكير والتأمل.. صحيح أنها لم تضع ملامح كاملة لـ«مسرح مصري».
كما علق بعض النقاد لكنَّ نقادًا آخرين اعتبروها ثورة فى عالم المسرح.
لكن للأسف لم يكرر يوسف إدريس التجربة، ولم يحاول غيره من كتاب المسرح إلا محمود دياب ربما، مواصلة تأسيس ما يمكن أن نطلق عليه وصف «مسرح مصرى».. لكن ذلك أيضًا لم يستمر للأسف.
أما مسرحية «عيلة الدوغري» لنعمان عاشور فكانت تعالج موضوعًا مصريًا فعلا على الرغم أن ناقدًا أو أكثر اعتبروها تمصيرًا لمسرحية «بستان الكرز» للكاتب الروسى أنطون تشيكوف.
وقارن بعض النقاد بين مسرحية «سليمان الحلبي» لألفريد فرج وبين مسرحية وليم شكسبير الشهيرة «هاملت».
أما مسرحية عبدالرحمن الشرقاوى «الفتى مهران» فقد كانت أول مسرحية جيدة شعرًا.. وضعيفة دراميًا باتفاق النقاد.
وفى هذه السنة المدهشة نشر صلاح عبدالصبور مسرحيته الشعرية الأولى «مأساة الحلاج». وقدم مسرح الجيب أعمال شوقى عبدالحكيم «شفيقة ومتولي» و«المستخبي».
وفى 1964 تم زفاف هدى عبدالناصر، إلى حاتم صادق، كما تم زفاف نوال السعداوى إلى الدكتور شريف حتاتة، وشهدت نفس السنة رفض المفكر الفرنسى الفيلسوف جان بول سارتر لجائزة نوبل.
وهى السنة التى تم فيها إعفاء إحسان عبدالقدوس من منصبه كمدير عام لمؤسسة «روزاليوسف»، وفصل مفيد فوزى من «صباح الخير» بالتليفون!
وعلى المستوى الشخصى هى السنة التى دخلت فيها التليفزيون لأول مرة يوم 21 فبراير وشاركت فى برنامج «عشرين سؤال» الذى تقدمه ليلى رستم فى حلقة بمناسبة اليوم العالمى للطلاب 21 فبراير وكانت عبارة عن مسابقة بينى وبين كرم شلبى خريج قسم الصحافة، فزت فيها وكانت الدكتورة لطيفة الزيات تقوم بالتحكيم، وكانت وهى طالبة جامعية من زعيمات حركة الطلاب التى تحوّل الاحتفال بها إلى هذا اليوم العالمى.
محفوظ إلى «ريش»
وفى 1964 دخلت مقهى «ريش» لأول مرة فى الوقت الذى دخله نجيب محفوظ لأول مرة أيضا، بعد أن نقل صالونه الأدبى من كازينو أوبرا رغمًا عنه.
وكان سبب دخولى «ريش» هو صحبة من الأصدقاء الأدباء الشبان، فقد كان مجلسى المفضل قبلها فى محل حلوانى ومطعم ومقهى يطل على ميدان التحرير هو «إيزائيفتش» الذى اختفى الآن وحل مكانه مطعم «كنتاكي»!

وفى هذا المحل الصغير الأنيق تعرّفت لأول مرة على كاتبنا الكبير يوسف إدريس.. كما تعرّفت على الفنان الشاب وقتها محمود ياسين وعرّفنى عليه صديقى مدكور ثابت (أصبح رئيس أكاديمية الفنون فيما بعد) حيث كان يخرج أول أفلامه وقد أسند بطولته لهذا الممثل المسرحى الجديد الواعد، وشاركته البطولة الفنانة الشابة شوشو حمدى التى أصبحت زوجته «شهيرة»، وفى «إيزائيفتش» وهو اسم صاحب المحل يوغوسلافى الجنسية.. تعرّفت على صديق عزيز هو الناقد السينمائى الجاد سامى السلاموني، وتعرّفت أيضا على محمد صدقى الكاتب الذى كان يعتبر نفسه «مكسيم جوركى مصر»!
ألم أقل إنها سنة لها تاريخ؟ّ!
وفى الأسبوع المقبل نواصل