قصة قصيرة
باب رزق

د. عزة بدر
جذب الدلّايّة الذهبية جذبة عنيفة واحدة، فجرحت السلسلة عنقى، وهوت على الأرض، لم ينحنِ لالتقاطها، وإنما فرّ بخطفته النفيسة، واختفى.
تحسست عنقى، والجرح المؤلم الذى ترك أثرا داميا، التقطت السلسلة التى انفتح قفلها، وعدت إلى البيت.
فى اليوم التالى وجدت مكان الجرح بلحات حمر قانية، تكاد تطيب على فرع السلسلة فتذكرت الدلاية، وكيف كانت شامخة على شكل نحلة، وثمارها من فصوص حمراء صغيرة، قال أبى يوم أهداها لى إنها من عقيق.
وابتسمت أمى: العقيق يفك الضيق لا أعرف فلسفة الأحجار عند أمى، لكننى أذكر ما قال أبى.
- النخلة عمتنا.. كونى مثلها دوما.. إن رماك أحدهم بحجر فلا تلقى إلا بثمرك.
لم أفهم فلسفة أبى وقتها أيضا، لكننى قلت لنفسى: لعله يقصد أن أكون طارحة ومثمرة مثل النخلة.
.. فى الليل وجدت حجرتى ملأى بالبلح الأحمر النابت من جروحى!، الذى تناثر بجانبى، وعلى وسادتى، وفى كل مكان.
قالت نفسى: جرحك قد أثمر، فملأنى العجب.
ظهرت لى فى السَحّر روح أبى كنور ساطع، همس لى بأن اسمها «الكا» كما أخبره جده.
وقال إن «الكا» روح المتوفى التى تدور حول داره بمجرد أن يغادر الدنيا، وأن هذه العقيدة عميقة جدا فى نفوس أهل قريتنا كما كانت عند الأجداد القدماء.
كانت «الكا» ترفرف كحمامة بيضاء حول الدار، وتتجسد أيضا فى هيئة ثمرة صبّار خضراء، رائحتها طازجة، وكنت أقرب البلحات وأشمها فأجد فيها رائحة أبى، لكن ذكرى سرقة ما أهداه لى كانت تؤلمنى.. الدلاية النخلة.. عمتى، فصوصها ثمار من عقيق، تتدلى فروعها إلى جانبيها وتحمل حكمة أبى: أن يطرح الإنسان ثمرا كلما ألقاه أحدهم بحجر!
.. ظلت النخلة تخايلنى فى أحلامى، وصوت «الكا» ينبعث قويا فى الليل، كنت أسمع فيه صوت أبى.
قالت أمى: إن الموتى يردون السلام، وأن ما عليّ إن أردت سماع صوته إلا أن أذهب معها لزيارته فى العيد الكبير، وأن نستأنس بسماع سلامه وصمته.
مشتاقة إليه لكننى أخاف زيارة المقابر، ترتعش يدى وكلما مسست ما يأخذونه معهم من «شريك».
لا أريد أن أتذكر أنهم نزلوا به ثلاث درجات أفضت بهم إلى رمل ناعم، تركوا أبى على سطحه بردائه الأبيض، وقالوا: هنا.. توقفى.. هنا لا يتحمل النساء أكثر من ذلك لا تنزلى إلى المقبرة، لن تقوى على الوقوف على قدميك إن فعلت قلت: معى ما كان يشتهى من طعام، ومن قهوة، معى فرع نعناع، وقميصه الأبيض الجديد، ومسبحته الخضراء التى تضىء فى الليل، وساعته المضبوطة على ساعة الفراق.
.. أخذ أحدهم أشيائى تلك وقال: سنوصلها له.
لم أطمئن إلى كلماته لأنى رأيته يشير إلى رأسه بيديه ويقول لآخر:
- عقلها من الصدمة خف
.. شكوتهما فى الليل إلى «الكا»، أطوف معها وهى تطوف فى البيت.
.. وتصحبنى إلى الحقول المجاورة، وتمضى معى إلى نقطة التقاء النهر بالبحر وتهمس: عند هذا البرزخ.. يوما ما هنا- تلاقينه، فصرت أذهب إلى البرزخ كل يوم، أحمل صنارته وطاقيته التى يحمى بها رأسه من الشمس أغنى له: «يا حمام طير قبله قوام يا حمام
يا حمام خليله الشمس حرير يا حمام»
«آه يا ناس آه يا ناس
مطرح خطاويه ما تروح
اسقوه بحنان.. اسقوه ردوا له الروح»
فينهض ويحمل دلو الماء الصغير الذى كنا نلهو به على الشاطئ، وقد امتلأ لحافته بطعم السمك، وهو يدس الطعم فى الصنارة، ويناولها لى ويقول:
- ألقها فى البحر
فألقيها، تغمز الصنّارة فأنظر إليه فيقول:
أجذبيها قبل أن تأكل الطعم وتختفى، بمجرد أن تنجذب الصنارة اجذبيها فأشدها، وأرى نصيبى من الرزق، السمكة المفضضة وهى تلمع تحت الشمس، تفلفص فى الهواء، وتتحرك بشدة، بحلاوة الروح تريد أن تعود إلى سكنها فى البحر فأخاف أن أمسكها أو أنزعها من الصنارة، قشرها مشوّك، وعيناها تلمعان ببريق غامض، لا أعرف إن كان بريق الخوف أم بريق البحث عن نجاة.
شهقاتها الأخيرة كانت تحزننى، كنت أريد أن أعد لها الطعام الذى تحبه قبل أن تذهب إلى هناك، إلى المكان الذى ينزلونه بثلاث درجات وفوق الرمل الناعم جدا يوسدونها، وبعد أيام تختفى.. تتلاشى، وتحلق روحها فى مكان ما، ربما فوق البحر، فى الموضع نفسه الذى تعلقت فيه بسن صنارتى لكن أبى كان يمد يده ويخلصها برفق من سن الصنّارة، يضعها فى دلو آخر من دلاء المصيف التى كنا نلهو بها على شاطئ البحر، وكنا نعود بالسمكات لأمى فتقبلها، تشطفها ثم تضع عليها الماء وفص مستكة، ثم تتركها لتنضج على النار، وكان شرابها معسولا له رائحة عبقة، وكنت أخاف أن تغير أمى طريقتها فى التعامل مع السمكات، كأن تقوم بشيّها على النار أو تقول لها ما قالته بطلة من ألف ليلة وليلة:
- يا سمك يا سمك، هل أنت على العهد مقيم؟
فتتقلب السمكات على النار، يحترقن ولا نعرف أين ذهبت «الكا»؟
.. الدلاء ما زالت فى بيتنا القديم، لكن الدلاية الذهبية سُرقت إلى الأبد ولا أدرى هل للدلاية «كا»؟
.. الدلاية على شكل نخلة، فهى عمتى، ولها «كا».
وددت لو ألمس روح الأشياء.
.. درت حول بيتنا القديم، تضنينى ذكرى السرقة، أصابع اللص المتسخة.. نظرته الفرحة، واللمعة التى التمتعت فى عينيه، وهو ينظر إلى جروح عنقى.. عاودنى صوت أبى.. وأن عليّ أن أصبح مثل عمتى النخلة مثمرة أبدا حتى ولو ألقانى أحدهم بحجر فهل ينطبق ذلك على معاملة اللصوص أيضا؟!
عذبتنى هواجسى، لكن «الكا» ظلت تحوم حولى، أشم فيها رائحة أبى تقول لى: لم تفقدى أى شيء، بيدك استعادة ذهبك الحقيقى، الدلاية النخلة عمتك.
- كيف؟
- انظرى أمامك إلى مفتاح الحياة الكبير الذى كان أبوك يحرص على مسه قبل أن يخرج فى الصباح ويقول: فيه خير كثير.
فأنهض من حزنى وألمى، وأسير حيث الحائط الكبير، المعلق عليه المفتاح.
- هزيه إليك
فأهزه.. فأجده ينهمر بعشرات من مفاتيح الحياة، تلمع وكلها تشبه النخلات وعلى فروعها حبات البلح الأحمر كالسلاسل الذهبية، أمد يدى فأقطف، ولدهشتى كانت الحبات تتحول إلى عقيق بعد أن ارتوى منها، وآخذ طعمتى.
.. أخذت مفتاحا صغيرا فعلقته فى السلسلة ورفعتها على عنقى فاستدارت النخلة الذهبية من جديد، فروعها دانية، ومثقلة بالبلح الأحمر والعقيق.
قلت: يا عمتى النخلة.. أريد أن أرى أبى ولو لمرة واحدة.
- إنه يتجسّد كل ليلة هناك، عند البرزخ ممسكا بصنارته، ويضع السمكة على السمكة حتى يعود بزاد وافر. أقول: معسولة على يد أمي؟!
- لديها حبات المستكة، وستنبعث فى بيتكم دائما تلك الرائحة الزكية، فهذه المفاتيح يا ابنتى مفاتيح حياة، كان أبوك يمسها فى البكور فيفتح له باب رزق.
.. لم أكن لأصدق أننى يوما سأستعيد الدلاية، حليتى الذهبية، نخلتى التى تمتد فروعها مثقلة بالبلح الأحمر وفصوص العقيق.
وكنت أسمع صوت أبى يهمس عند البرزخ، وحول البيت، وفوق الموج وتحت مياه البحر، وعند طرح النهر: - لديك كنزك، إن رماك أحدهم بحجر فلا تطرحى إلا ثمرا.