هل فقد البالطو الأبيض بريقه
«الدكترة» لم تعد حلمًا؟!

بسمة مصطفى عمر
ارتبطت ذاكرة الأجيال المتعاقبة بلون واحد يرمز للحلم بـ «البالطو الأبيض»، فهو لم يكن مجرد لون، أو زى مهنى للأطباء، ولكنه وعد بالوجاهة، وبطاقة عبور إلى مكانة اجتماعية مرموقة، وطمأنينة عائلية، وحكاية تروى فى مناسبات الفخر، فالبالطو كان رمزًا أشبه بتيجان غير مرئية، تمنح لمن اجتازوا سنوات مرهقة من السهر والدراسة، ليخرجوا من قاعات الجامعات محاطين بهالة تقديس.
يتغير المشهد اليوم، على مسرح الحياة المهنية، ولم يعد «الأبيض» نجم العرض الأوحد، فهناك ألوان أخرى صعدت إلى مسرح الحياة، ثم تقدمت للواجهة، وظهرت وظائف جديدة بأدوات عصرية، وكليات أقصر طريقًا، وأسرع عائدًا، وأكثر انسجامًا مع طموحات جيل يبحث عن التحقق المادى والعملى قبل المجد.
ولم يعد النجاح مرهونًا بقضاء 7 سنوات من الدراسة فى كلية الطب، وتتبعها سنوات أخرى من التدريب والنيابة بالمستشفيات الحكومية، فصار النجاح يقاس أحيانًا بسرعة الحصول على وظيفة، أو بحجم الراتب، أو حتى بمساحة الحرية الشخصية التى تمنحها المهنة، فتبدلت خرائط الأحلام، لتصبح الشاشات الزرقاء المعبرة عن تكنولوجيا المعلومات التى تضج بالأكواد، والعائد السريع، منافسًا شرسًا لرمز ظل طويلًا بلا منازع.
بريق الماضى
خلال أعوام قليلة، تسلل سؤال صريح إلى بيوت المتفوّقين، لماذا نختار طريقًا أطول فى الدراسة، وأبطأ فى المردود؟ فى مواجهة واقع طبى مزدحم، وميزانيات لا تكفي، وإجراءات تثقل يوم الطبيب قبل أن يبدأ، ووجد الجيل الجديد أن هيبة اللقب لا تسد ثغرات ومتطلبات الحياة، ولذلك تبدلت المعايير، وصار للوقت قيمة، وبات الاتزان بين العمل والعيش، مطلبًا غير قابل للتفاوض.
وبين مهن صحية بديلة كالتمريض، والعلاج الطبيعي، والأشعة، والتكنولوجيا الطبية، والعلوم الصحية، وأخرى حديثة فى مجالات التكنولوجيا الحيوية والمعلوماتية، وجد جيل جديد نفسه أمام لوحة خيارات ألوان أوسع من «الأبيض»، وربما لهذا السبب تحول البالطو الأبيض، من رمز كان يومًا ذروة الطموح، لمجرد حلم ضمن أحلام متعددة.
تتطرق مجلة «صباح الخير» لمناقشة تحول اجتماعى واقتصادى وثقافي، يعيد رسم سلم المكانة والاختيار، فهل بهت بريق البالطو الأبيض؟ ومن انتزع منه الأضواء؟ أم أن الزمن وحده غيَّر زاوية الرؤية؟ وماذا عن مستقبل لم يعد فيه الطب هو الحلم الأول، رغم أنه لا يزال ضرورة لا غنى عنها فى المجتمع؟
فيرى الدكتور محمد فتح الله، أستاذ القياس والتقويم النفسى والتربوى بالمركز القومى للتقويم التربوى، أن تراجع جاذبية المهن الطبية لم يكن ناتجًا عن فتور أو عزوف، بقدر ما يعكس تحولات عميقة فى فكر الجيل الجديد، حيث أصبح الطلاب أكثر واقعية وبرجماتية فى اختياراتهم، فهم يسعون للاندماج السريع فى سوق العمل، بما يواكب التحولات الاقتصادية والاجتماعية.
وأوضح أن البالطو الأبيض اكتسب بريقه فى الماضى، نتيجة ظروف اقتصادية واجتماعية محددة، حيث ارتبط بزيادة الدخل والمكانة الاجتماعية، لكن مع تغير احتياجات السوق والمجتمع، تراجعت تلك المكانة لصالح المهن التقنية والفنية المرتبطة بالتعليم الفنى والتكنولوجى، الذى بات ينظر إليه اليوم باعتباره «الحصان الرابح» فى سوق العمل.
ويضيف: يختصر هذا النوع من التعليم سنوات الدراسة التقليدية، ويمنح الخريج فرصًا أسرع فى التوظيف داخل قطاعات واعدة مثل الميكنة، والذكاء الاصطناعي، والطاقة الجديدة، والأطراف الصناعية، وهو ما دفع الشركات العالمية والمصانع، للتنافس على استقطاب هؤلاء الخريجين باعتبارهم العمود الفقرى للتنمية الصناعية.
وأشار فتح الله، إلى أن الدولة استجابت لهذه التحولات بإنشاء الجامعات التكنولوجية، كتتويج للتجربة التى بدأت فى المدارس الفنية والتكنولوجية التطبيقية، وقال لدينا اليوم نحو 90 مدرسة تكنولوجية متخصصة، مرشحة للزيادة باعتبارها قاطرة التنمية الحقيقية، فهى لا تخرِّج مجرد فني، بل فنى أكاديمى متخصص، وهو ما كان يمثل معضلة فى الماضي، حيث كانت كليات الهندسة تخرج أكاديميًا فقط، والمدارس الصناعية تخرج فنيًا بلا خلفية نظرية كافية.
وبيَّن الخبير التربوى مثالًا للفرق بين الفنى والأكاديمى قائلا: قد تكون الممرضة أكثر دقة من الطبيب فى وخز الإبر بالوريد، بينما يمتلك الطبيب معرفة نظرية متعمقة بالبنية التشريحية، لكن الجمع بين المهارة الفنية والدراسة الأكاديمية، هو ما تسعى لتحقيقه الكليات التكنولوجية الحديثة.

وأضاف أن التحولات الاقتصادية والرقمية، ساهمت فى تقليص بريق البالطو الأبيض، خاصة مع اتجاه بعض الأطباء للعمل فى مجالات التدريس، أو الصيدلة للعمل كمندوبى مبيعات للأدوية، أى بعيدا عن الممارسة الطبية، نتيجة ضغوط اقتصادية واجتماعية، وفى المقابل برزت مكانة خريجى التعليم الفنى والتكنولوجي، وهو ما انعكس على ارتفاع الإقبال على كليات التمريض خلال السنوات الأخيرة، مقارنة بما كانت عليه منذ 15 عاما.
العائد الاقتصادى
وشدد فتح الله على ضرورة تغيير النظرة المجتمعية إلى التعليم الفني، مؤكدًا أنه لم يعد مخصصًا لطلاب أقل تحصيلا أو درجة ثانية، بل أصبح خيارًا رئيسيًا يرتبط بمردود اقتصادى واجتماعى حقيقي، موضحًا أن الجامعات التكنولوجية، مطالبة بزيادة الشراكات مع قطاع الأعمال، وتقديم برامج متطورة، وربط الطلاب بسوق العمل، عبر أنشطة مثل «يوم التوظيف» الذى تنظمه معظم الجامعات، حيث تعرض الشركات احتياجاتها، وتتيح للطلاب فرص تدريب عملى أثناء الدراسة، وصولا إلى فرص التدريب بالخارج لتبادل الخبرات وزيادة الكفاءة.
ودعا إلى التركيز على التعليم المستمر الذى لا يتوقف عند المرحلة الجامعية، بل يواكب التطورات المتسارعة، خاصة فى مجالات الرقمنة، مؤكدًا أن التدريب أثناء العمل هو الصناعة الحقيقية لنهضة المجتمعات، كما أن التعليم لا ينبغى أن ينفصل عن ثقافة المجتمع وهويته القومية، بل يجب أن يحافظ عليها ويطورها فى الوقت نفسه الذى يلبى فيه احتياجات سوق العمل.
فى حين اعتبر الدكتور مكرم رضوان، عضو لجنة الصحة بمجلس النواب، أن أزمة المهنة لم تعد مرتبطة فقط برمزية البالطو الأبيض، بل بتفاصيل الواقع العملى للأطباء بعد التخرج، فمصر تشهد سنويًا تخرج نحو 14 ألف طبيب، إلا أن الاستفادة الحقيقية لا تتجاوز 3 إلى 4 آلاف طبيب فقط، فى حين يضطر معظم الخريجين إلى البحث عن فرص عمل فى الخارج، بسبب غياب التدريب الكافى أو إتاحة الدراسات العليا.

ويشير الدكتور رضوان إلى أن نظام التكليف أصبح مرتبطًا بالاحتياج، وهو ما أدى إلى تخرج أعداد كبيرة من الخريجين دون تكليف، ما يعمق من أسباب فقدان بريق المهنة، كما أن مكانة كلية الطب تغيرت مقارنة بالماضي، فبعد أن كانت مقصورة على المتفوقين من الصفوة، أصبح الالتحاق بها متاحًا عبر الجامعات الخاصة والأهلية، التى تستوعب أعدادًا أكبر بكثير من المعدلات العالمية.
وأوضح أنه فى الولايات المتحدة، على سبيل المثال، لا يتجاوز عدد طلاب الدفعة فى أكبر كلية طب 300 طالب، وفى أوروبا يبلغ العدد نحو 200 طالب، مما يسمح بتطبيق أنماط تعليم متقدمة، مثل التدريس بالمجموعات الصغيرة، والتدريب العملى المباشر، أما فى مصر، فالأعداد الكبيرة لا تقابلها فرص تدريب كافية، وهو ما يضعف من جودة المخرجات.
ويرى رضوان أن طول سنوات الدراسة وارتفاع تكاليفها، مقارنة بضعف العائد المادى، يعد من أبرز أسباب عزوف الشباب، فأجر الطبيب الشاب قد لا يتجاوز الحد الأدنى للأجور، فى الوقت الذى يواجه فيه التزامات حياتية وأسرية، فضلا عن تكاليف الدراسات العليا التى أصبحت عبئا ثقيلا، بجانب ندرة أماكن التدريب، مشيرًا إلى أن غياب المستلزمات الطبية، والأجهزة فى بعض أماكن العمل يزيد من إحباط الطبيب، الذى يفقد الشعور بجدوى ما تعلمه.
كما نوه إلى أزمة توزيع التخصصات، حيث يشهد بعضها فائضًا كبيرًا مثل الصيدلة والعلاج الطبيعي، فى حين تعانى تخصصات حيوية مثل التخدير، والعناية المركزة، وجراحة المخ والأعصاب من عجز واضح، ويقترح أن يتم منح حوافز مالية مضاعفة للأطباء فى هذه التخصصات النادرة لضمان إقبالهم عليها.

فى رأيه أن تعزيز دور طب الأسرة يمثل مدخلا رئيسيا لإصلاح المنظومة، حيث تمتلك مصر أكثر من 5500 وحدة صحية ومركز طب أسرة، يمكنها تغطية 80% من احتياجات المرضى داخل القرى والمدن، إذا ما توافر فيها أطباء أسرة مؤهلون، الأمر الذى يخفف العبء عن المستشفيات، ويوفر تكلفة ضخمة على الدولة، ويستشهد بالنموذج الأمريكى حيث يشكل أطباء الأسرة 45% من القوى البشرية الطبية، مقابل 45% من الإخصائيين و10% فقط من الاستشاريين.
ويضيف رضوان، أن الهجرة المتزايدة للأطباء ليست بالضرورة أمرًا سلبيًا، حيث تسهم فى إكسابهم خبرات أوسع وتوفر عملة صعبة للدولة، لكنه يحذر من ضياع الطاقات بسبب غياب التخطيط للاستفادة منهم.
فعندما يتخرج 14 ألف طبيب فى العام، ونستفيد فعليا من 3 أو 4 آلاف فقط، فإننا نهدر طاقة بشرية هائلة، كان يمكن أن تعالج أزمة العجز فى التخصصات الحرجة.
ويؤكد رضوان، أن تحسين الأجور، وتوسيع فرص الدراسات العليا، وتسريع تطبيق منظومة التأمين الصحى الشامل، تمثل خطوات جوهرية لإعادة الاعتبار إلى المهنة، قائلا، فى حالة عدم إعادة النظر فى بيئة العمل ومستقبل الطبيب الشاب، سيظل حلم «البالطو الأبيض» فى تراجع مستمر عبر الأجيال.

تصحر طبى
فى حين اعتبر الدكتور أبوبكر القاضي، عضو مجلس نقابة الأطباء، أن التحدى الجوهرى الذى يواجه مهنة الطب فى مصر، لم يعد مرتبطًا بنقص عدد الخريجين، وإنما بغياب آليات واضحة لتقدير الأطباء والتعامل معهم بما يليق بدورهم، محذرًا من أن استمرار تجاهل هذه الأزمة يهدد بمزيد من عزوف المتفوقين عن دراسة الطب، ويفتح الباب أمام ما وصفه بـ«التصحر الطبى».
وأوضح القاضى أن مصر تمتلك ثروة بشرية من الأطباء، حيث يتجاوز عدد المقيدين بالنقابة 300 ألف طبيب، فى حين أن عدد الممارسين فعليا لا يتعدى 100 ألف، نتيجة تزايد الهجرة والاستقالات المستمرة، مؤكدا أن جوهر المشكلة لا يكمن فى الكم، بل فى فقدان القدرة على الاحتفاظ بالأطباء داخل المنظومة الصحية.
وأشار إلى أن أبرز التحديات التى تواجه الأطباء الجدد، تبدأ بطول سنوات الدراسة، التى تصل إلى 7 سنوات، مرورا بالعائد المتدني، وانتهاءً بتكاليف الدراسات العليا، والدورات التدريبية التى أصبحت عبئا مضاعفا.
ولفت إلى أن الأطباء بعد التخرج، يصطدمون بواقع صعب، سواء على مستوى التدريب أو فرص العمل، حيث أصبح فتح عيادة خاصة أمرًا شبه مستحيل، فى ظل اشتراط الحصول على وحدة سكنية إدارية، بتكلفة تتراوح بين 3 و4 ملايين جنيه، وهو ما يتجاوز قدرة الطبيب الشاب.
وأكد القاضي، أن هذا الوضع يدفع الكثيرين إلى الهجرة أو العمل خارج الإطار القانونى، بينما يظل 2 إلى 3% فقط من الأطباء الذين نجحوا فى التسويق لأنفسهم، عبر منصات التواصل الاجتماعى قادرين على تحقيق دخل مرتفع، فى حين تعانى الأغلبية من ظروف معيشية قاسية.
وانتقد التوسع غير المدروس فى إنشاء كليات الطب الخاصة والأهلية، واصفا إياه بالكارثة التى تهدد جودة التعليم الطبى وسمعة المهنة، قائلا: «لم يعد التفوق شرطًا للالتحاق بالطب، حيث أصبحت بعض الكليات تقبل طلابًا بمعدلات لا تتجاوز 50%، وهو ما انعكس على ارتفاع نسب الرسوب فى الجامعات»، مشيرًا إلى مطالبات النقابة العديدة، لوقف فتح كليات طب جديدة، إلا فى وجود مستشفى جامعى يضمن تدريب الطلاب، غير أن هذا الطلب لم ينف حتى الآن.
وشدد القاضي، على أن إنقاذ مهنة الطب فى مصر، يتطلب قرارات عاجلة، فى مقدمتها تحسين رواتب الأطباء بما يكفل لهم حياة كريمة، وتبسيط إجراءات ترخيص العيادات، مع وضع قواعد واضحة للثواب والعقاب، مؤكدًا أن ما يحتاجه الأطباء هو بيئة عمل عادلة، وتعليم طبى مستمر، ورؤية استراتيجية واضحة للمستقبل.
ودعا عضو مجلس نقابة الأطباء، إلى تشكيل لجنة عليا تضم جميع الجهات المعنية، لدراسة أسباب هجرة الأطباء، وعزوف الأجيال الجديدة عن المهنة، ووضع خطة متكاملة لنحو 10 سنوات مقبلة، قائلا إن الطب ليس مهنة عادية، فالطبيب يتعامل مع الإنسان فى لحظة ضعفه، وبتجاهل الاستثمار فى هذا القطاع الحيوي، لن نستطيع الحفاظ على صحة المصريين.