الأحد 21 سبتمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

حكاية منياوى عاش قبل 4500 سنة

نجح باحثون من معهد «فرانسيس كريك»، وجامعة «ليفربول جون مورز» فى إجراء أول تسلسل جينومى كامل لإنسان مصرى قديم، عاش قبل نحو 4500 عام، فى موقع أثرى يُعرف اليوم باسم «النويرات»، قرب بنى حسن فى محافظة المنيا.



 

ويُعد هذا الاكتشاف هو الأقدم من نوعه فى التاريخ المصرى القديم، ويفتح نافذة جديدة لفهم أصول المصريين القدماء، والعلاقات الجينية بينهم وبين شعوب الجوار.

وتشير نتائج التحليل الجينى إلى نحو 77.6% من الحمض النووى لهذا الرجل تعود أصوله إلى سكان شمال إفريقيا فى العصر النيوليتى،  تحديداً من منطقة المغرب الأوسط، بينما تُظهر نسبة الـ22.4% المتبقية ارتباطاً بسكان بلاد الرافدين القدماء، أى المنطقة التى تضم العراق الحديث وأجزاء من سوريا وإيران، والتى شهدت نشأة أقدم حضارات العالم.

 

 

 

اللافت فى هذه النتائج أنها تمثل أول دليل جينى مباشر على وجود اتصال بشرى فعلى بين مصر وبلاد الرافدين فى عصور مبكرة، يتجاوز التبادل المادى المعروف من قبل، كالنباتات المستأنسة، والكتابة، وأدوات الفخار، إلى تمازج سكانى حقيقى.

وتكشف الدراسة المنشورة فى دورية «نيتشر» (Nature) العلمية أن الرجل عاش بين عامى 2855، و2570 قبل الميلاد، وهى فترة مفصلية فى تاريخ مصر القديم، تقع بين توحيد البلاد على يد الملك مينا، وبدايات بناء الدولة القديمة، ورغم أن جثته لم تُحنط، فإنها دُفنت فى جرة فخارية كبيرة داخل قبر صخرى، ما ساعد على حفظ الحمض النووى لعظامه بشكل استثنائى.

وكانت مصلحة الآثار المصرية قد تبرعت بالمومياء بين عامى 1902، و1904 لأعضاء لجنة تنقيب بنى حسن، الذين قاموا بدورهم بالتبرع بها لمعهد الآثار بجامعة ليفربول.

تشير التحاليل الأثرية إلى أن هذا الرجل كان بالغاً فى العمر عند وفاته، ربما بين 44 و64 عاماً، وهو عمر متقدم نسبياً فى ذلك الزمن.

كما أظهرت العظام تآكلاً شديداً فى المفاصل والأسنان، فى دليل على حياة شاقة وعمل بدنى مرهق، ويُرجح الباحثون أنه كان يعمل كخزّاف أو حرفى،  نظراً لأنماط التلف فى ركبتيه ويديه التى تشبه أوضاع الجلوس الطويلة أمام عجلة الفخار.

رغم طبيعة عمله المتواضعة، فإن نمط دفنه الفاخر يثير تساؤلات عن مكانته الاجتماعية، إذ كان من النادر أن يُدفن الحرفيون فى جرار فخارية داخل مقابر منحوتة، ويرى بعض العلماء أن مهارته أو مكانته ضمن مجتمعه ربما منحتْه احتراماً استثنائياً.

لم تكن النتائج الوراثية وحدها المثيرة للاهتمام، بل أيضاً الأساليب المستخدمة فى الدراسة، فقد نجح الفريق فى استخراج الحمض النووى من سبعة أسنان، رغم التحديات المناخية التى عادةً ما تُتلف المادة الوراثية فى البيئات الحارة مثل مصر.

 

 

 

واستخدمت التقنيات الحديثة فى التعقيم والاستخلاص والتحليل، وجرى ربط النتائج بجينومات أكثر من 4000 شخص من الحاضر والماضى.

وعبر تقنيات تحليل المقارنة الجينية، وجد الباحثون أن الجينوم الخاص بالرجل يتطابق جزئياً مع سكان شمال إفريقيا النيوليتيين، وخاصة من المغرب الأوسط، الذين عُرف عنهم أنهم يحملون تركيبة جينية مختلطة تضم عناصر من السكان المحليين وسكان الشرق الأدنى، أما الجزء المتبقى من الجينوم، فكان مطابقاً بدرجة كبيرة لعينات جينية من بلاد ما بين النهرين تعود لفترة ما بين 9000، و8000 قبل الميلاد.

وتنفى هذه النتائج الفرضية القديمة التى كانت تعتبر مصر القديمة حضارة مغلقة جينياً، إذ تُظهر الدراسة أن المصريين القدماء -على الأقل فى تلك الفترة- كانوا جزءاً من شبكة بشرية أوسع تشمل شمال إفريقيا، وغرب آسيا.

الباحثون أكدوا أن نتائجهم تستند إلى جينوم واحد فقط، ما يحد من القدرة على تعميم الاستنتاجات، لكنهم يأملون أن تُجرى تحليلات مماثلة على مزيد من الرفات البشرية من فترات ومواقع مختلفة فى مصر، لرسم خريطة أدق للتاريخ الجينى للمصريين القدماء.

وتُعيد هذه الدراسة صياغة أسئلة جوهرية حول طبيعة الهوية المصرية القديمة، وتُبرز الدور الحاسم الذى لعبته الهجرات المبكرة والتفاعلات الإقليمية فى تشكيل الحضارة الفرعونية، ليس فقط فى أدواتها وكتابتها، بل فى جينات أبنائها أيضاً.

 

 

 

وقالت الباحثة الرئيسية فى الدراسة أديلين موريز جاكوبس: «نأمل أن تساعد هذه الاكتشافات فى تتبع متى وكيف بدأت هذه الحركات السكانية نحو مصر، وإنشاء قاعدة بيانات وراثية أوسع لفهم أصول سكان وادى النيل».