مذكرات أم كلثوم بريشة الفنان بيكار

قرأها: أحمـد رزق
عرفت السيدة أم كلثوم بحسها الأدبى وتذوقها لمعانى الكلمات، الذى كان واضحًا فى اختيارها للقصائد والأغانى، وتكتب فى مذكراتها بعد حفظها للقرآن الكريم وقراءة السيرة النبوية أنها كانت تستعير الكتب من والدها ثم اشترتها بعد ذلك مثل: ديوان «المتنبى» و«الشريف الرضى».
وبعد رحيلها للقاهرة كانت حريصة على لقاء رموز الفكر والأدب مثل الدكتور طه حسين الذى اعتبرها أبرز من جسّدوا جمال اللغة العربية، وكان توفيق الحكيم يتواصل معها ويشاركها الرأى حول المسرح والغناء، كل ذلك أسهم فى صياغتها للمذكرات التى كتبتها بخط يدها بأسلوب رشيق لا يخلو من طرافة.
وفى هذه الحلقات نعرض بعض مذكراتها التى كتبتها عن مرحلة الطفولة وبعض المواقف التى تعرضت لها والأيام الأولى بعد رحيلها للقاهرة.
المذكرات رسمها خصيصًا لها الفنان حسين بيكار، وهو من أهم رموز الفن التشكيلى وأحد أعمدة الرسم الصحفى فى مصر والوطن العربى، الذى صاغ كلمات أم كلثوم بخطوط رشيقة لتناسب المرحلة الزمنية والتخيل المبهر للشخصيات والأمكنة.

20 قرشًا
كان أبى يجلس على الأرض يقرأ كتابًا عن أولاد النبى، وكانت عيناه فى تلك اللحظة على اسم إحدى بنات النبى، وقبل أن يسمع أنه رزق بمولود أو مولودة صاح: نسميها باسم بنت النبى، نسميها أم كلثوم ... ولم يكن اسم أم كلثوم متداولاً فى قرية طماى ولا القرى المجاورة، وراحوا يحاولون إقناع الشيخ إبراهيم بتغيير الاسم، إلا أنه أصر على تسميتى أم كلثوم.
كان والدى أيامها إمام مسجد القرية، من أعمال مركز السنبلاوين دقهلية، وكان مرتبه من الإمامة لا يكفى للصرف على أسرته، ولهذا كان يقرأ فى الموالد، وكان دخله من عمله الإضافى وعمله الأصلى لا يتجاوز عشرين قرشًا كل شهر.. وكان هذا المبلغ هو الذى يغطى كل نفقات أسرة مكونة من أمى وأبى وأخى خالد وأنا، ولا أعرف كيف كنا نعيش بهذا المبلغ.
ستى نصره.. والعروسة
إن أول صورة أذكرها اليوم هى صورة ستى نصرة أم أبى، كانت نحيفة سوداء، مسمسمة التقاطيع، وقد ارتدت جلبابًا أسود وطرحة سوداء، وجلست على الأرض تفصِّل لى عروسة من القماش وأنا جالسة مسحورة، أذكر لما انتهت من تفاصيل العروسة، وملأتها بالقطن، رسمت عليها العينين والحاجبين والشفتين، ثم قطعت خصلة من شعرها، ولصقتها على رأس العروسة، وأنا أرقب عملية الخلق فى دهشة وإعجاب.

المفتش والشيخ عبدالعزيز
قد حدث أن أساءت لى زميلتى عزيزة فقررت أن أنتقم منها، وذهبت قبل موعد دخول التلاميذ، وفتحت درج عزيزة وكسرت لوح الإردواز الذى تكتب عليه. وفجأة دخل مفتش وزارة المعارف وسألنى عن الشيخ عبدالعزيز فقلت له لم يحضر بعد، وحضر الشيخ عبدالعزيز بعد فترة، فقال له المفتش: ما شاء الله .. البنت الصغيرة تحضر فى الميعاد وحضرتك تتأخر. ضاق الشيخ عبدالعزيز بهذا اللوم وحمَّلنى مسئوليته وراح يضطهدنى فى كل مناسبة.

سيدنا مات
ذهبت إلى الكُتَّاب فقالوا إن سيدنا قد مات، فلم أصدق، ذهبت إلى بيته ورأيت دموع زوجته وأمه وابنته فلم أصدق، ولما سارت جنازته مشيت وراء نعشه حتى المدافن وانتظرت حتى أخرجوه من النعش وأدخلوه المقبرة وواروا عليه التراب.
لقد كنت أتصور أن الشيخ عبدالعزيز من الشخصيات التى لا يمكن أن تموت، كنت أتصور أنه سيطل برأسه فجأة من القبر ويقول لى: قومى جاوبى يا بنت «يا فالحة» ولكن سيدنا الشيخ لم يطل من تحت التراب، وتوهمت أنهم دفنوا التعليم فى القبر مع الشيخ عبدالعزيز، تصورت أنه مخترع فكرة التعليم.

حكاياتى مع القطة
كنت أحتضن قطتى الصغيرة التى كانت تؤنسنى، وتبدد وحدتى، كانت هذه القطة صديقتى، كنت أحدثها عن متاعبى الصغيرة وأحلامى الكبيرة، وكانت تنصت إلىَّ باهتمام! وفجأة تركتنى القطة ودخلت تحت الكنبة، فزحفت وجلست معها تحت الكنبة، فقد راح والدى يبحث عنى دون جدوى، ويظهر أنى جلست تحت الكنبة مدة طويلة، ولما خرجت القطة خرجت وراءها، وتلقفنى والدى وأجلسنى بجانبه وطلب منى أن أغني، ورفضت للمرة الثانية أن أغنى جالسة وأصررت على الوقوف، وكان جمهور هذه الليلة أكبر من جمهور الليلة السابقة، كان عددهم عشرين شخصًا، لكنى لم أشعر بهذا الجمهور الكبير ولم أهتم به كنت أغنى وأنا أحلم، أحلم بطبق المهلبية الذى ينتظرنى.

أغانى الشيخ أبوالعلا
كان فونوغراف العمدة، فقد سمعت على هذا الفونوغراف صوت الشيخ أبوالعلا وهزنى صوته وهو يغنى: أفديه إن حفظ الهوى، وحقك أنت المنى والطلب. كان الفونوغراف يسكت ولكن صوت الشيخ أبوالعلا كان يستمر يغنى فى أذنى، كان أطفال القرية يرددون وأنا نازلة أتدلع أملا القلل أما أنا فكنت أعيش مع أغانى الشيخ أبوالعلا، وكنت أتصور أنه مات، لم يخطر على بالى أن صاحب هذا الصوت يعيش فى الدنيا التى أعيش فيها.

كازوزة ومهلبية
واكتشف أبى ذات يوم اكتشافًا هامًا، علم أن المطرب الصييت الشيخ حسن جابر يشرب الكازوزة فى الحفلات، فأضاف إلى عقودنا بندًا جديدًا يتعهد صاحب الحفلة بتنفيذه.. وكان هذا البند هو أن يتعهد الطرف الأول بأن يقدم للطرف الثانى أم كلثوم زجاجة كازوزة، ومفيش حد أحسن من حد. وكنت سعيدة بحياتى .. سعيدة بالحمار الذى أركبه، وطبق المهلبية الذى ألتهمه، وزجاجة الكازوزة التى أشربها، وبدأت شهرتنا تملأ الآفاق، وكانت الآفاق هى القرى المجاورة لمركز السنبلاوين، ووصل أجرى مع الفرقة التى تتألف من خمسة مشايخ إلى مائة قرش عن كل حفلة نقيمها.