الأربعاء 10 سبتمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

أحلام لم تتحقق للعقاد!

أكتب هذه الحكايات والذكريات من الذاكرة واعتمادا على بعض ما أمكن جمعه من مواد وصور، وأترك لنفسى حرية التجوّل فى دوائر الذكرى دون تخطيط مسبق حتى أشعر براحة ومتعة لا تحققها عملية التوثيق الأرشيفية ولا يتحقق معها للقارئ ذلك الشعور بالمتعة والمؤانسة.



ومع أن الحكايات والومضات تتزاحم فى رأسى، ومع أن بعض الأسماء تختفى من شريط الذاكرة بفعل التقادم، وتشابك الأحداث والوقائع والشخصيات والمشاعر، فإن ما يهمنى أكثر هو جوهر كل حكاية أو ومضة أو واقعة.

 

لم تعرف هوليوود مخرجًا ومنتجًا عربيًا ناجحًا سوى مصطفى العقاد.

 فهو العربى الوحيد الذى اقتحم غابة السينما الأمريكية العالمية ونجح رغم كل العوائق والصعوبات  والعنصرية.. وكان كل من يعلم فى حلب، برغبة الشاب مصطفى العقاد فى أن يذهب إلى هوليوود ويصبح مخرجًا، يثنيه عن هذه الفكرة المجنونة، ويحذّره من أن الفشل سيكون النتيجة الوحيدة لمغامرته لأن العنصرية تحكم الغرب ضد العرب، كما كانوا يؤكدون له: ثم لا تنس أن اليهود يسيطرون على صناعة السينما الأمريكية ولن يسمحوا لشاب عربى مسلم بالبقاء والاستمرار. 

 

لكنه تجاهل كل هذه التحذيرات والمخاوف ومحاولات الإحباط، وخاض المغامرة.

ويشرح جانبًا من سر نجاحه هو أنه لم يخض خلافات أو صراعات مع أحد هناك وخاصة اليهود، وتبين له أن هذا الأسلوب الذى لجأ إليه كنوع من تجاوز المرحلة ومواصلة الدراسة هو الذى جعلهم يتغاضون عن وجوده.

وهو يعتقد أن السبب الأهم هو «الإجادة» والإصرار على النجاح والتفوق على الباقين، ما جعل من الصعب أن يعاديه أحد.. أو يقلل من شأنه.

 

 

 

ملايين الدولارات

صحيح أن نجاحه المادى تحقق من خلال إنتاج سلسلة من أفلام الرعب «هالاوين» حصد من  ورائها عشرات ملايين الدولارات.. وانتشرت فى أنحاء العالم.

لكن هذا الشاب السورى الذى هجر بلده سوريا فى عمر 19 سنة وتأمرك وكافح فى تعلُّم فن وصناعة السينما، درس فى جامعات لوس أنجليس سنة 1954 فنون المسرح والإخراج والإنتاج السينمائي، وتفوق على زملائه، بعد أن غمره لفترة قصيرة شعور غريب بأنه أقل كفاءة من أقرانه الأمريكان.. لكن تميزه سهّل له العمل بعد التخرج كمساعد لأحد كبار مخرجى هوليوود «الفريد هيتشكوك» الذى استفاد مصطفى العقاد من خبرته فى فنون الإثارة السينمائية والرعب، ونفعته هذه الخبرة عند إنتاج سلسلة أفلام «هالاوين» وهى ثمانية أفلام كان دوره فيها هو الإنتاج والإشراف الفنى، لكنه فى الفيلم الثامن والأخير الذى أنجزه عام 2002 تولى بنفسه عملية الإنتاج والإخراج.

عاش مصطفى العقاد لفترة متجاهلًا عروبته، قال لى مرة إنه وجد نفسه يعود فجأة يفاخر بعروبته، وحكى لى الحكاية..

عرفته لأول مرة عندما جاء إلى القاهرة بمشروعه السينمائى العالمي، فيلم «الرسالة» الشهير الذى يتناول قصة ميلاد رسالة الإسلام، طالبًا اعتماد الأزهر الشريف، فتشكلت لجنة برئاسة شيخ الأزهر وتوفيق الحكيم وعبد الرحمن الشرقاوى.. وآخرين. وأتيحت لى فرصة التعرُّف على مصطفى العقاد وقتها حيث حضرت العرض الخاص للفيلم الذى شاهدته اللجنة  وأبدت إعجابها بالفيلم وأقرته على الفور.

وأدهشنى وقتها أن هذا الفنان لم يُخرج وينتج فيلمًا واحدًا بهذا العنوان وإنما فيلمين، أو نسختين إحداهما -التى شاهدتها مع اللجنة- ناطقة باللغة العربية ويقوم ببطولتها نخبة من نجوم السينما المصريين على رأسهم عبدالله غيث، وحمدى غيث وعبدالوارث عسر وأحمد مرعى وعبدالغنى قمر وسناء جميل وملك الجمل وغيرهم وقامت بالبطولة النسائية النجمة السورية منى واصف. والنسخة الثانية ناطقة باللغة الإنجليزية ويقوم ببطولتها نجوم هوليوود ويتقدمهم أنتونى كوين والنجمة اليونانية إيرين باباس، ومعهما بعض نجوم مصر وسوريا وليبيا والمغرب أيضًا.

ولعلنا لا نعرف أبدًا أن هناك فيلمًا آخر فى تاريخ هوليوود وغيرها تم إنتاجه وإخراجه بنسختين، ولغتين فى الوقت نفسه.

وانتشر الفيلم بنسختيه فى مصر والعالم العربى والإسلامى ومختلف أنحاء العالم، وكان أول فيلم عالمى ينشر رسالة الإسلام ويشرحها للعالم.

 

 

 

وعرِض فى أمريكا وحدها فى أكثر من 3 آلاف دار عرض كما عرض فى 30 دولة أخرى، كما عرضت النسخة العربية فى بلدان العالم العربى والإسلامي. وتردد أن حوالى 20 ألف إنسان دخلوا الإسلام واعتنقوه بعد مشاهدة فيلم مصطفى العقاد «الرسالة».

والتقينا بعد 30 سنة، أنا ومصطفى العقاد، للمرة الثانية فى لندن سنة 2004 وأجريت معه حديثًا طويلًا عن مغامرته ونجاحه فى اختراق غابة هوليوود وعن حكاية فقدانه الثقة فى العرب والعروبة لفترة.

وسألته عن سر استعادته لعروبته؟ فقال: كانت فكرتى أن أعظم ما يملكه العرب فى العصر الحالى هو التاريخ، فلم تكن لديَّ أى ثقة فى حال الحاضر العربى فى الخمسينيات. 

لكننى فوجئت فى وقت لاحق بعد عدة سنوات بأن عمال الشحن والتفريغ فى موانئ أمريكا قرروا الإضراب عن العمل تضامنًا مع نداء عبدالناصر، فبحثت الأمر فوجدت أن العرب قد أفاقوا وأصبح لهم حضور دولى وزعيم كبير يستمع إليه العالم، ويخشاه قادة الغرب.. فشعرت بزهو خاص وبدأت أعلن كل من حولى أننى عربى.

 

ليس هذا فقط -يضيف المنتج والمخرج الكبير-  بل إننى بدأت أخطط لمشروع فيلم «الرسالة» ونفذته قبل سنتين من قيامى بإنتاج سلسلة أفلام «هالاوين».

فقد كان شعورى أن علّى واجبًا نحو أمتى ودينى هو أن أشرح هذا الدين للناس فى الغرب.. ما دمت أعيش فى الغرب، وسعيت للحصول على مساعدات مالية كافية وقد استطعت أن أحصل عليها من دول عربية فتمكنت من إنتاج وإخراج «الرسالة» واستعنت فى كتابة السيناريو بتوفيق الحكيم ويوسف إدريس.. وبدلًا من اللجوء لإنتاج فيلم واحد وصنع نسخة منه مدبلجة باللغة الإنجليزية، غامرت وقررت عمل نسختين حتى أتمكن من اختيار أشهر نجوم هوليوود لبطولة النسخة العالمية الناطقة بالإنجليزية، مع أن ذلك كان بمثابة مغامرة كبيرة، لأنها لو فشلت لأصابنى الإفلاس. 

 

 

 
 

 

وقد قابلتنى عقبات كبيرة قبل التمكن من إخراج الفيلم وإنتاجه، فقد رفضته هيئة دينية عربية واستعنت بالملك المغربى الحسن الثانى الذى شارك فى تمويل الفيلم ليقنع هذه الهيئة بأهمية هذا الفيلم.. لكنه بعد فترة وتحت الضغوط انسحب من المشروع وكنا نصوّر الفيلم فى المغرب فانتقلنا لاستكمال التصوير فى ليبيا.

أنتونى كوين.. عمر المختار! 

ونتيجة نجاح «الرسالة» واصل العقاد مهمته العربية فأنتج فيلمًا عن البطل عمر المختار، واختار للدور أنتونى كوين.. لماذا؟ 

يجيب: لأن اختيار نجم عربى لم يكن ليقنع المشاهد الأجنبي، فأردت أن أصل لهذا المشاهد عبر أحد نجومه المفضلين.. وهذا الفيلم عن البطل الليبى هدفت من ورائه إقناع الغرب بقضيتنا العربية.

 

حدثنى مصطفى العقاد طويلًا عن مشروعه الذى كان يحلم بإنجازه وهو فيلم عن القدس من خلال قصة البطل صلاح الدين الأيوبي. وقال: عرضت المشروع على الشيخ زايد فرحب به ووعدنى بأن يشارك فى تمويله بل ويساعدنى فى الحصول على مساهمات تمويلية من حكام عرب آخرين.. لكن وفاة الرجل وعدم استجابة غيره عطلت تحقيق حلمى.

وحكى لى العقاد أنه كان لديه مشروع سينمائى عالمى عن فتح الأندلس، وتذكر كيف كان زمن الأندلس فى خياله عندما كان يدرس وأن مشروع تخرجه من جامعة كاليفورنيا كان فيلمًا قصيرًا عن «قصر الحمراء الأندلسى». 

ودعانى المخرج العربى العالمى لزيارته فى لوس أنجليس للتعرّف على تفاصيل أكثر عن حياته وعمله، وليأخذنى فى رحلة لأستكشف أغوار هوليوود وخباياها، لكن القدر كان أسبق إليه، فبينما ذهب لحضور حفل زفاف فى فندق فى العاصمة الأردنية عمان، فى العام التالى 2005 تمت عملية إرهابية لتنظيم «القاعدة» فى الفندق فراحت ابنته ضحية التفجير.. ولحقها هو بعد يومين.

وهكذا.. لم يتحقق  حلمه الكبير.. ولم يتحقق حلمى فى اسكتشاف أسرار هوليوود.

وفى الأسبوع المقبل نواصل