وسط البلد التى حلم بها البارسيون.. وحكايات عمارة النمرى
هارب من «موسكو» إلى شوارع «الموسكى»

يكشفها: باسم توفيق
«كنا نعتبر ديفيد روزونبولت ميشلوف أستاذًا كبيرًا، كانت ليتوانيا كلها تعرف ميشلوف ولم تكن هناك مدرسة أو معهد موسيقى لا يتمنى أن يدرس فيه ميشلوف لأنه أجاد باحتراف كل أسرة الفيولينه، الفيولينه والفيولا والفيولينسيه (التشيللو) وكان يستطيع أن يحفظ نوتة الكونشيرتو كلها دون أن يحدث لديه لَبْس بالمرّة, وهذا يعنى أنه كان موزعًا عبقريّا. لكن فى بداية زمن الكساد الذى عَمَّ روسيا القيصرية كلها بداية من 1910 وبعد أن أغلقت المعاهد أبوابها وأغلقت الملاهى رحل المحترفون إلى برلين وفيينا وبودابست وغيرها.. لكننى أذكر جيدًا أن ميشلوف أتى إلى دارنا وكان يجلس مع عمى وأخبره أنه سوف يرحل لمصر، واصفًا إياها بأنها حاضرة العالم التى لا يضام فيها أحد سواء من أى دين أو من أى عِرق، حيث سبقه للقاهرة خاله مندل إبراموفيتش الذى كان يتاجر فى القطن، كما أن ولده ميشا كان يلعب الكمان فى مقهى كبير بوسط المدينة يرتاده الأغنياء وعلية القوم، وكان خاله رجلاً متدينًا.
لذا فكان يذكر فى رسائله أن فى القاهرة فقط أكثر من 80 معبدًا بين قرائى وربانى ولادينى ومن كل الطوائف، والمصريون شعب يحب الناس ولا يُفرق بين دين وآخر بل على العكس هم يعتبرون اليهود أصحاب ديانة سماوية كبيرة ورصينة، وكان يكرر فى انجذاب وتأثر ما ذكره خاله مندل فى إحدى رسائله ويقول وهو يفتح يديه ويرفعها لأعلى: ما أكبر هذه المدينة ورقى الحياة فيها.. إنها القاهرة يا سيدى.. التى يحلم بها الباريسيون».

هكذا يقول الليتوانى ياشكا هيفتز (1901- 1987) أحد أعظم عازفى الكمان فى القرن العشرين بين دفات مذكراته متحدثًا عن القاهرة.
ولعله ليس من نافلة القول أن نقول إن الجيل الجديد الذى لم ير أو يعتبر أن القاهرة كانت يومًا إحدى حواضر المدنية فى العالم لن يشعر بهذه الهالة المقدسة التى تحيط القاهرة إلا حينما يقرأ القاهرة فى ذكريات وقصاصات الأجانب الذين عاشوا فيها ردحًا من الزمان منذ دخول الحملة الفرنسية إلى مصر- وربما قبلها.
وحتى لا يلتبس الأمر على القارئ علينا أن نشرح معنى كلمة كوزموبوليتان التى ربما سوف توضح أمورًا كثيرة فى حديثنا عن القاهرة وأحيائها العريقة.
كوزموبوليتان هى كلمة ذات جذور يونانية مشتقة من كلمة كوزموس ومعناها العالم.
ولذا فإن مصطلح كوزموبوليتانى معناه عالمى شديد التنوع، وهى بالتحديد تصف المسألة التكوينية العرقية للمجتمع القاهرى على مدار 250 عامًا، ويتبع ذلك حالة اجتماعية وثقافية متميزة شديدة الاختلاف لم نلحظها فى عواصم عربية كثيرة.
إذن نحن نتحدث عن القاهرة وبالتحديد حى وسط البلد الذى يُعتبر سُرّة المجتمع القاهرى ومحل سكن ونشاط الطبقة الراقية والطبقة المتوسطة العليا منذ بنائه فى عهد الخديو إسماعيل.
وليس معنى ذلك أنه قبل إسماعيل لم يكن هناك وسط المدينة، فهذا ضربٌ من المبالغة بالطبع، لكن كانت وسط القاهرة هى تلك البقعة التى امتدت على أثر القاهرة الفاطمية وأصبحت بقعة مستقلة بذاتها.
هالة قدسية
بالطبع لن تحدث وسط المدينة بشكل وصفى، فهذه المسألة الوصفية قد قتلت بحثًا لكننا سوف نتخطى مرحلة الوصف لما يُعرف بسرد المدن، أى النسج الحكائى فى سيال الذكريات لدى الكثيرين ممن عاشوا واستوطنوا هذا الحى، وشكلت هذه الذاكرة تلك التى أعطت لحى وسط المدينة هالة قدسية وعجائبية رسخت فى ذهن الغرب فى حقبة معينة.
الحقيقة أن هناك العديد من القصاصات بين أيدينا تكشف لنا عن مدى قوة وعبقرية الفكرة الاختزالية لحى وسط المدينة فى عقول الغرب وسوف نسرد ما نعتقد أنه سوف يحلو للقارئ.
يقول فرانز زافير أحد أشهر المقربين لأودلف هتلر وقائد وحدة الـ SS التى كانت تمثل المخابرات الألمانية فى رسالة لمارجريت شولتز عام 1927: «وعليك أن تتخيلى عزيزتى مارجريت جَمال القاهرة، ولذا يبدو لى أن سكانها لا يرهقون أنفسهم بالأعمال الكثيرة، وربما يسرن على الموضة أكثر من معظم نساء أوروبا.. وهكذا صباحًا تجدين أن - جروبى- وهو أكبر مقاهى القاهرة يضارع بل يفوق مقاهى النمسا وبرلين».
قال: «تستطيعين أن تشاهدى النساء صباحًا يتناولن القهوة والشاى والحلوى ذات الكريمة السرية التى لا تُصنع إلا هنا فى جروبى.. سوف تجدين مدى احتضان القاهرة لكل جنسيات العالم، فلقد قابلت هنا روس ويونانيين وإيطاليين وألمان ومجريين وإنكليز أكثر مما قابلت فى برلين.. ولقد سمعت من النادل المصرى أن سنيور أخيل قد أثرى من توريد الشيكولاتة والحلوى لسفن القوات التى كانت تعبر قناة السويس أثناء الحرب الماضية.. وسط المدينة هنا يعج بالمقاهى والمطاعم الضخمة التى لا يرتادها إلا الصفوة مثل مكسيم والبوم بوم.. أعتقد أننى سوف أتقاعد هنا».
الحقيقة أن هذا الخطاب من شخصية رفيعة المستوى مثل زافير يُعتبر وثيقة شديدة الأهمية توصف لنا حال وسط المدينة فى هذه الحقبة التى ازدهرت فيها وسط المدينة أيما ازدهار.
وهناك شىء اعتبره الألمان كلمة السر فى منتصف الحرب العالمية الثانية بعد تاريخ هذا الخطاب بعشرين عامًا تقريبًا وهو مطعم ومقهى جروبى، الذى بلغ من أهميته أن هتلر أعلن فى نشراته التى كان يهدد بها الحلفاء أنه سوف يتناول قهوته صباح يوم رأس السنة فى جروبى قُبيل معركة العلمين الشهيرة.
ولسنا نبالغ أن جروبى وسط المدينة كان أشهر بكثير من معظم مقاهى أوروبا الشهيرة حتى إن مقولة هتلر هذه جعلت أكثر من 23% من اليهود المقيمين فى مصر يهرعون للهجرة خارج مصر إلى البلاد البعيدة عن دوى الحرب مثل جنوب إفريقيا.
كما يظهر من الخطاب مدى ثراء هذا الرجل السويسرى المعجزة أخيل جروبى الذى سجلت له براءة اختراع فى الحلوى وهو معجون الكريمة المخفوقة والمحلاة «الكريم شانتيه»، كما سُجل له فيما بعد ابتداع حلوى «الروا بيتيكو شو» الشهير.
إذن إلى هذا الحد كان حى وسط المدينة قلب القاهرة التى هى حاضرة الشرق الأوسط وإحدى حواضر العالم آنذاك. ما وراء الحكاية
يقول الكاتب الإنجليزى الشهير لورانس داريل فى مقال نشر عن القاهرة فى حوليات بروكلين التى كانت تهتم كثيرًا باليهود متعددى الجنسيات المهاجرين إلى بروكلين، يقول: «كنتُ قد ذهبتُ للقاء راؤول صديقى الفرنسى فى القاهرة وكان يسكن فى بناية شهيرة بوسط المدينة يصفها دائمًا بأن بها لعنة الحب والفراق، وكان هذا واضحًا من المنحوتة الحجرية التى تشكل مدخل عمارة موشوفيسكى الذى كان يسكن فيها راؤول».
الحقيقة أن الحديث عن هذه العمارة التى وصفها داريل بأنها تحمل لعنة الحب والفراق شديد المتعة، فلقد قمنا ببحث موسع عنها لنكشف طابعها المعمارى وما وراء الحكاية..
تُعتبرعمارة موشوفيسكى من بين نماذج عمارة وسط البلد الرائعة، هذه العمارة البديعة التى تحمل مرافقها رؤوس ميدوزات (الميدوزا مخلوق خرافى فى الأساطير اليونانية ضمن ثلاثة تُعرف بالجراجين الثلاثة، وهى عبارة عن سيدة لها عيون مرعبة وشَعر عبارة عن ثعابين، وكان هذا بسبب غضب الربة أثينا عليها وتحويلها لهذا المسخ الشائه)، قام بإنجازها فنان إيطالى مغمور اسمه «أنطونيو باتتانى».

لكن اللافت فى هذه البناية التى تقع فى شارع رمسيس ومدخلها فى شارع جانبى مواجه لمحل للأسلحة والذخائر- على ما أذكر- كنتُ قد فُتنتُ بهذه البناية، خاصة أن لها مدخلاً غريبًا محلى بتماثيل بارزة لها وضع درامى شديد التعبيرية عبارة عن فتى وفتاة على ما يبدو أنهما فى حالة انفصال أو خصام بعد اتصال وعشق.
والمدقق فى المشهد النحتى يُدرك أنهما فى فرقة إتكائية- وكأنهما فوق فراش- هذا بغض النظر عن الأفاريز المحلاة بزخارف البيضة والسهم وبعض الزخارف الكافية التى فقد معظمها أيضًا بعض الأيقونات الهندسية التى كانت مذهبة بحرص وعناية لكنها بهتت بفعل الزمن.
العمارة لها قصة أعجب من زخارفها، فلقد كان أهل الحى يطلقون عليها حتى الستينيات- عمارة النمرى- وهذا نسبة لأربعة نمور كانت مُطلة من حواف سطوع العمارة عند نهايات الأعمدة الرئيسية لواجهات البناية وفقدت للأسف هذه النمور التى كانت تقترب لحجم النمور الطبيعية فى مقايسيها كما يبين رسم المبنى المقتبس عن أحد المبانى النمساوية الشهيرة.
وبعد فقد النمور الرخامية نسى الناس رويدًا رويدًا اسم النمرى…
قام بتصميم العمارة مهندس نمساوى يهودى اسمه إيكيل ماورا، وقام بأعمال النحت الرئيسية ( النمور- الميدوزات- زخارف الأفاريز والميتوبات) النحات الإيطالى أنطونيو باتتانى، الذى عاش فى مصر فى الفترة ما بين 1891 و1917 ثم رحل إلى إيطاليا.
ويقال إنه أخو المهندس دورنتمارو الذى كُلف بإنشاء كورنيش الإسكندرية ثم مات قبل أن يكمله، لكن هذا الكلام غير صحيح لأن دورنتمارو كان من نابولى وباتتانى كان من روما وهناك فرق زمنى بين تواجد كل منهما فى مصر..
لكن من أعمال بتانى فى المبنى يدل أنه كان من مدرسة روما الرصينة للزخارف المعمارية التى انتشرت فى كل أوروبا فى منتصف القرن الـ19 حتى منتصف القرن العشرين.
صاحب المبنى كان رجل أعمال أمريكيّا اسمه ثيودور موشوفيسكى من أصول سلافية على المذهب البروتوستانتى، وكان قد أتى إلى مصر عام 1898 ليستثمر فى تجارة المعادن والفحم، حيث كان شريكًا لأدمون سوليفيرا المليونير اليهودى ثم عائلة قطاوى الشهيرة التى سيطرت على الاقتصاد فى مصر ردحًا من الزمان، وكان العديد من أصحاب ثيودور يعتقدون أنه يهودى لأن اسمه (موشى فيسكى) هو عبرانى محرف للهجات السولاف والبلقان الشهيرة لكنه كان بروتوستانتيّا..
كان ثيودور قد ترك خطيبته فى أمريكا وقد هيأ سُبل العيش لها لتستقر معه فى مصر وبنى لها هذه البناية الفاخرة ونقل أعماله فى مكتب بها، لكن خطيبته ذهبت مع أحد رجال الأعمال فى الأرجنتين وتزوجته..
فقد ثيودور ثقته بالنساء واستأجر نحاتًا أمريكيّا قام بنحت هذه المنحوتة الدرامية ومثبوت فى أوراق المبنى القديمة من أول معاملة جرت عليها أن النحات اسمه جون اسمه الأول فقط «مع أن بعض المؤرخين نسبوها لنحاتين مصريين»، لكن الواضح أن هذه المدرسة فى النسب والمقاييس لم تكن أبدًا تتبع مصريين فى هذه الحقبة التى خلت من الأساس من النحت الكلاسيكى إلا على يد الأوروبيين والأرمن.
المهم أن ثيودور زهد الحياة بعد أن أكمل بنايته بهذا المشهد الدرامى المؤثر.
وبعد ثلاث سنوات دخل سلك الكهنوت وأسند إدارة العمارة كأوقاف للكنيسة البروتوستانتية.
وفى مطلع سنة 1926 خرج ثيودور قاصدًا كينيا ضمن بعثة إرسالية بروتوستانتية.. ولكنها لم تصل قط إلى نيروبى.. وظلت العمارة تابعة لأوقاف الكنيسة البروتوستانتية حتى منتصف الخمسينيات حتى آلت بشكل أو بآخر لمالك يونانى تركها فى أواخر الستينيات وقامت البنوك بالتعاقب بالحجز عليها لكن ظلت عمارة النمرى شفرة مجهولة.
هناك العديد والعديد من الطرائف وراء الطرز المعمارية والبنايات فى وسط المدينة، لكن الحقيقة أن وقائع السرد فى وسط المدينة من رسائل ومذكرات ووثائق هذا المجتمع الكوزموبوليتانى تعتبر ثروة تتعدى عشرات الآلاف من الصفحات تستطيع أن تستشف منها أن قلب القاهرة وسط المدينة أو القاهرة الخديوية كانت قلب الشرق الأوسط النابض، بل تم تصنيفها على أنها أحد أرقى الأحياء السكنية فى العالم حتى أواخر الأربعينيات.

وختامًا نذكر هنا شهادة لأحد سكان وسط المدينة الكوزموبليتانية، وهو أحد رجال الصناعة ورائد فن الخراطة فى مصر فى حقبة العشرينيات حتى الخمسينيات، وهو عامل بولندى مدرب أتى إلى مصر وطوّر بها العديد من مفاهيم صناعة الخراطة الميكانيكية ويُدعى أيلى شابين- كانت ورشته الرئيسية بشارع الشيخ العمرى- القللى حاليًا- يقول شابين: وسط المدينة فى القاهرة له سحر خاص أكثر من مدن أوربية كثيرة، فهو يجمع بين العراقة والتطور بل وتجد فيه كل سُبل الحياة الحديثة وشوارع متخصصة لتقديم الفنون والثقافة مثل شارع عماد الدين.. وكان أى عامل يأتى ليعمل عندى من الريف أو من الأحياء الشعبية وبعد أن أخصص له راتبًا كان بعضهم يفتنه شارع عماد الدين فكنت أضحك له وأردد ما يقوله المصريون «عرفت شارع عماد الدين والله ما أنت نافع»، والحقيقة عرفت الكثيرين من المشاهير بدأوا حياتهم بظهور متواضع فى عماد الدين مثل أستيفانو روسيتى الذى كان يقوم بعروض خيال الظل فى مقهى يملكها رجل إيطالى من جنوة، قبل أن يصبح واحدا من أشهر الممثلين فى السينما المصرية فيما بعد.