الخميس 4 سبتمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
«غزة».. القشة التى أطاحت  بالحكومة الهولندية

«غزة».. القشة التى أطاحت بالحكومة الهولندية

لم تكن أزمة «غزة» والمطالبة بفرض عقوبات على إسرائيل هى الأزمة الوحيدة التى عاشتها هولندا مؤخرًا، فقد شهدت «هولندا» خلال العامين الأخيرين واحدة من أعقد الأزمات السياسية فى تاريخها الحديث، بعدما دخلت البلاد فى دوامة من الخلافات الحزبية، والاستقالات الوزارية، وانهيار الائتلاف الحاكم، الأمر الذى دفع الحكومة إلى أن تتحول لحكومة تصريف أعمال (حكومة محدودة الصلاحيات تقتصر على تسيير الشئون اليومية)، فى انتظار انتخابات مبكرة خلال الخريف المقبل.



 

 

 

مؤخرًا وفى نهاية أغسطس الماضى، قدّم وزير الخارجية «كاسبار فيلدكامب» المنتمى إلى حزب «العهد الاجتماعى الجديد» (NSC)، مقترحًا لفرض عقوبات على إسرائيل ردًا على الحرب فى غزة، تضمن حظر استيراد منتجات المستوطنات، وتعليق اتفاق التجارة الأوروبية الإسرائيلية، ومنع تصدير قطع بحرية إلى إسرائيل.

 

لكن المواقف داخل الحكومة كانت منقسمة بحدة، حيث عارض حزب الشعب للحرية والديمقراطية VVD اليمينى الليبرالى المحافظ خوفًا من الأضرار التجارية والدبلوماسية، بينما عارض حزب الفلاح / المواطن «يمين وسط ريفي» «BBB» خشية انعكاس العقوبات على المزارعين وصادراتهم، فيما رفض «حزب الحرية» «PVV» بزعامة خيرت فيلدز الزعيم اليمينى المتطرف رفضًا مطلقًا باعتبار إسرائيل «حليفًا استراتيجيًا»، لكن حزب «العهد الاجتماعى الجديد» من الوسط المحافظ «NSC» تمسك بفرض العقوبات دفاعًا عن القانون الدولى والإنسانى. 

فى حين، انقسمت المعارضة التى تضم (12 حزبًا متنوعًا)، إلى موقفين، الأول يضم: اليسار ويسار الوسط حيث دعوا لعقوبات، بينما اليمين واليمين المحافظ وقفوا ضدها. 

أمام هذا العجز، استقال «كاسبار فيلدكامب» من منصبه، وتبعه باقى وزراء حزبه NSC جميعًا، وهو ما وصفته صحيفة Guardian بأنه «القشة الأخيرة التى أطاحت بما تبقى من تماسك الائتلاف».

وتأسس «حزب العهد الاجتماعى الجديد» (NSC) عام 2023 بقيادة «بيتر أومتسخت» بعد انشقاقه عن حزب النداء الديمقراطى المسيحى CDA، حيث ركز على الشفافية وإصلاح المؤسسات وسياسات هجرة متوازنة، لكنه ضعف بشدة بعد انسحاب «أومتسخت» من البرلمان فى إبريل 2025 بسبب الإرهاق، ومع استقالة وزرائه، تأكد أن الحزب لم يعد قادرًا على الصمود أمام سطوة «اليمين الشعبوى».

وتوضيحا للأزمة، فإن البرلمان الهولندى يتكون من 150 مقعدًا، ولا حزب يستطيع الفوز بأغلبية مطلقة، لذلك تُشكّل الحكومات عبر ائتلافات عادة من 3 أو 4 أحزاب، ما يجعلها هشة بطبيعتها، حيث يسمح نظام التمثيل النسبى بدخول أحزاب صغيرة جدًا بمقعد أو مقعدين، ما يزيد حالة التشظى.

وأظهرت استطلاعات الرأى الأخيرة ارتفاعًا ملحوظًا لشعبية حزب الحرية PVV إلى 42 مقعدًا محتملًا، مقابل 22 لـ«الشعب للحرية والديمقراطية» VVD، و27 لتحالف GroenLinks-PvdA اليسارى، بينما تراجع «العهد الاجتماعى الجديد» NSC إلى 10 مقاعد فقط، وهذه الأرقام تعكس حالة الاستقطاب المتصاعد بين «يمين شعبوى قوى» و«يسار يسعى لإعادة التوازن».

 

 

 

النتائج والتداعيات

بذلك، تكون هولندا دخلت حالة شلل سياسى، حيث إن حكومة تصريف الأعمال عاجزة عن التعامل مع ملفات كبرى مثل الهجرة والسياسة الخارجية، حتى انتخابات أكتوبر المقبلة، التى ستعيد رسم المشهد، لكن من غير المتوقع أن تُنهى حالة الاستقطاب.

فمنذ 2019، قاد «حزب الفلاح» حركة احتجاجية ضد خطط خفض انبعاثات النيتروجين، وكان دخوله الحكومة بهدف ضمان حماية مصالح المزارعين، أكثر من الانخراط فى ملفات الهجرة أو غزة.

فى حين أنه مع اشتداد «حرب غزة» ورفض الحكومة فرض عقوبات على إسرائيل، خرجت مظاهرات كبيرة فى أمستردام وروتردام، حيث تضم كثيرين من أبناء الجالية المسلمة الذين شعروا بالتهميش، معتبرين أن أصواتهم لا تُحتسب.

فى الوقت نفسه، دخل الإعلام فى حالة «انقسام حاد»، فالصحف اليمينية مثل Telegraaf اعتبرت استقالة فيلدكامب «خيانة للمصلحة الوطنية»، بينما رأت صحف يسارية مثل Volkskrant وTrouw أنها «الموقف الأخلاقى الأول فى هذه الحكومة»، ليصبح الإعلام جزءًا من الاستقطاب لا مجرد ناقل له. 

وفى الشارع نقلت وسائل إعلام آراء مختلفة فقال طالب جامعي: «ندرس الديمقراطية فى الكتب ولا نراها فى الواقع»، بينما قال مزارع من منطقة «خرونينجن»: «السياسيون يتشاجرون ونحن نخسر محاصيلنا»، وقالت سيدة سورية لاجئة: «نُعامل كعبء لا كأشخاص»، فى حين اعتبر رجل أعمال من مدينة روتردام أن العقوبات على إسرائيل كانت ستضر بشركته.

لكن المحصلة أنه خلال أقل من عام، انهارت حكومة «ديك سخوف» التى وُصفت منذ البداية بأنها «تجربة محفوفة بالمخاطر» بدءًا من خطة الهجرة المتشددة، ثم خلاف العقوبات على إسرائيل، ما أطاح بالتحالف، وتبقى الانتخابات المبكرة فى أكتوبر مفصلية: إما أن تمنح الزعيم اليمينى المتطرف خيرت «فيلدرز» تفويضًا أكبر لليمين الشعبوى، أو تمنح اليسار والوسط فرصة لطرح بديل أكثر استقرارًا.

لكن المؤكد أن السياسة الهولندية دخلت مرحلة جديدة من هشاشة التحالفات والاستقطاب الحاد، ما يضعف استقرار الداخل ويقلل من دور هولندا داخل الاتحاد الأوروبى.