السبت 25 أكتوبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

سينما أخرى

هل السينما حرة مستقلة؟!

قال الرسام والروائى الأمريكى هنرى ميلر يومًا ما معناه أنه يتمنى أن تحل السينما محل الأدب، ولعله يقصد الانتقالات الحرة فى الماضى والحاضر، لكن الحقيقة أن أهل السينما يعتقدون أن حرية الأديب أكبر، أوضح مثال لذلك تجربة الكاتب صبرى موسى فى تحويل روايته (حادث النصف متر) إلى فيلم سينمائى كتب له السيناريو بنفسه؛ فبينما بدأت الرواية بموقف يقول فيه البطل عن غريمه أنه رجل واثق من نفسه جاء إلىّ يطلب منى بكل هدوء أن أبتعد عن حبيبتى لأننى سأتزوجها.



وهو فلاش فوروارد يقتبس من أحداث النهاية فقرة يضعها فى صدر الرواية على سبيل جذب الانتباه إلى شخصية البطل المتردد غير الواثق قبل أن يبدأ رحلته معه من الطفولة.

فنرى التربية القاسية التى تعرض لها على يد الوالد فغيرت فى نفسيته وسلوكه للأبد.

لكن السيناريست شعر بقيود أكبر من التى كانت لديه وهو يكتب النص الأدبى، فجعل الفيلم الذى حمل نفس العنوان يبدأ بداية تقليدية ولا يتعرض لطفولة البطل على أهميتها إلا لمرة واحدة وهو يلعب الأولى مع جارته الطفلة فينهره أبوه.

وهو موقف غير موجود فى الرواية أصلًا، بل كان أمامه حادث أكثر تأثيرًا حتى بالنسبة للشاشة وهو عندما تستغله مراهقة جميلة فتبتعد به إلى كابين على الشاطئ أطلقا عليه اسم (الوكر) ثم يصدم عندما يعرف خبر زواجها بعد الذى كان بينهما. ثم يتخلى عن الشعر الأشقر لبطل الرواية لتناسب الأحداث بطل الفيلم (محمود ياسين)، وهكذا.

 

 

 

فيما بعد سوف تتحرر السينما فى الغرب كثيرًا من سلطة الزمن بمساره التقليدى فى السرد السينمائى، حتى عندما يلجأ كوينتن تارانتينو إلى تقسيم أحد أفلامه، (قتل بيل)، إلى فصول روائية لها عناوين.

تارانتينو نفسه قال بعد عرض فيلمه (خيال رخيص)، أن السينما المعاصرة لن تعود كما كانت عليه أبداً!

دارت فى رأسى هذه الخواطر عندما وقع فى يدى كتاب د. سعاد شوقى الجميل والهام (الزمن فى السرد السينمائي) المنشور عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، تكتشف فيه أن طرائق السرد لم تتوقف يومًا عن التطور بمعونة التقنيات الحديثة فى المونتاج والتصوير والمؤثرات، كما صاحبه تطور جمالي فى فن السينما مع ثقافة سينمائية ملحوظة لدى المشاهد الغربى الذى يقبل على مشاهدة هذه الأفلام ذات السرد العجيب مع قلة الاهتمام هنا لبذل محاولات لتغيير الثقافة الفنية للمشاهد المصرى والعربى، فتنصح صناع السينما المنتجين أن يقدموا على إنتاج أعمال سينمائية محلية نابعة من ثقافتنا بشخصيات أصيلة مما سيؤدى بالتأكيد لأفكار جديدة وجريئة تسمح باستخدام أساليب سرد غير نمطية ومختلفة لها خصوصياتها.

بالطبع لم تستطع السينما المصرية أن تواكب أشكال السرد المختلفة فى العالم رغم استخدامها كل التقنيات الحديثة، ويعود اللوم فى جانب كبير منه على المشاهد طبعًا الذى لا يستسيغ الأشكال السردية وقفزات الزمن بسهولة فى الأفلام العربية.

 

أضف لذلك، أهمية دراسة العناصر الدلالية العامة المتعلقة بالثقافة المصرية والعربية وربطها بالعناصر الدلالية للفن السينمائى بحيث تؤدى لوضع أسس لغة سينمائية قومية وتمييز السينما العربية لها تبعا لنسقها الدلالى.

 

 

 

لم تعد السينما تتشدد فى التبرير المنطقى للشخصيات وسلوكها الإنسانى، على حد مفهوم هارولد بنتر: حتى الشخصية التى لا تستطيع أن تقدم براهين مقنعة فيما يتعلق بماضيها ولا تقدم تحليلًا شاملًا لبواعثها، هى شرعية وحقيقية وجديرة بالاهتمام.

وهكذا يرفض المخرج المعاصر الأفكار الواضحة والتسلسل المنطقى والشخصيات المفهومة، بل يضع المشاهد من البداية ضمن أحداث غريبة سريعة غامضة فيروضه للرحلة ليرتادا معًا غابة التساؤلات من خلال: قصة ما تضم أحداثاً معينة، مع حريته فى اللعب بالزمن وتقديم، أو تأخير الأحداث.

من هذه التجارب السبّاقة فى السينما العربية: الليلة الأخيرة لكمال الشيخ 1963، الاختيار ليوسف شاهين  1971 حيث تحرر المخرج من الحبكة ومن البناء الدرامى التقليدى ومن أى التزام بتتابع منطقى للأحداث.

 وهو يطرح ازدواجية الشخصية المصرية التى سقطت فى مستنقع الفساد والتفسخ الاجتماعى والاقتصادى والسياسى والثقافى بعد نكسة 67).

هناك أيضا فيلم زوجتى والكلب لسعيد مرزوق 1971(تتوازى الهواجس الداخلية للزوج محمود مرسى مع خط زمنى آخر لعلاقة زميله نور الشريف بالزوجة سعاد حسنى، وبالرغم من أنه الفيلم الأول لمرزوق لكنه كان ككل تجربة جديدة ومتطورة حتى على مستوى الموسيقى والتمثيل)، أما فيلم المذنبون لسعيد مرزوق 1976 فتشبه أحداثه فيلم راشمون لأكيرا كيروساوا، حيث الحادث واحد والحقيقة نسبية، لا نعرفها كاملة إلا نتاج وجهات نظر متعددة تحمل كل منها جزءًا منه)، وهناك حدوتة مصرية ليوسف شاهين 1982 (المخرج يرينا ذكرياته وكل ما مر به فى حياته من مواقف وعلاقاته بأمه وأخته وزوجته، هذه الذكريات مجسدة يتواجد هو فيه بشخصه الحالى كرجل بالغ وبشخصه القديم كطفل فى محاكمة وهناك أيضا فيلم البحث عن سيد مرزوق لداود عبد السيد 1991، ومن التجارب الحديثة: أحلام حقيقية لمحمد جمعة 2007، زى النهاردة لعمرو سلامة 2008.

فى كل هذه الأعمال تصبح شاشة العادة والألفة هى الطريقة المضمونة لتسجيل المعلومات والإدراك عن عامة الناس، فتصبح الطقوس اليومية الروتينية والخبرات المتكررة هى الغالبة فى رؤيتها للواقع، وما من إنقاذ لهم إلا بالدخول إلى حديقة الخيال.

هذه الفكرة التى يهاجمها (موريس بيجا) فى كتابه (الفيلم والأدب) وهو يتساءل باستنكار: «إذا كان ذلك صحيحاً وكانت الكلمات هى المقابل للكادرات فأين القاموس الذى يستطيع أن يحدد معنى كل صورة؟».

يستطيع الفيلم أن يوفر لنا تدفقًا مستمرًا يموه ويصغر الانتقالات على خشبة مسرح الحياة دون أن يتنازل عن وحدة القصة.

 

 

 

 لهذا رأينا مؤخرًا التصالح الكبير، وبفضل التقنية المتقدمة، بين المسرح والسينما، حتى أن مسرح الشارع بدأ يستخدم شاشات بلازما تعرض أفلامًا قصيرة تلخص أجزاء من المسرحية، وتختص كل مشكلات الإمكانيات والديكور والانتقالات الزمنية فى مشاهد قليلة مساعدة للنص.

وحيث المخرج مقيد بحدود الزمن مهما تلاعب به، بالحذف أو الإضافة أو التكرار أو الوقف، ويجب أن تكون كل صورة تمر أمام الجمهور ترصد شيئًا ما عبر الزمن، «إن نقاء السينما، قوتها المتأصلة لا يظهر فى الميل الرمزى للصور (مهما كانت جريئة) بل فى قدرة تلك الصور على التعبير عن واقعة فعلية ومحددة» (تاركوفسكى، كتاب النحت فى الزمن).

الرسام والمصور الإيطالى المعروف دى كيركو الذى يرتبط اسمه، بالتيار الميتافيزيقى فى الفن هو الذى استعمل (غرابة الإحساس) بالعالم كلوح يقفز به إلى الإبداع، فقال عن ذلك: «رأيت عنده أن كل زاوية فى المكان، كل عمود، كل نافذة، لها روح تشكّل لغزًا..عندها صار عندى انطباع غريب بأننى كنت أنظر إلى هذه الأشياء لأول مرة، وأن تركيب صورتى جاء لعين دماغي».

لذلك يجب أن ينظر المرء إلى كل شيء فى العالم على أنه لغز، ليس فقط الأسئلة العظيمة التى يسأل الشخص نفسه إياها على الدوام. يجب فهم لغز الأشياء التى تعتبر عامة غير ذات أهمية.. يجب أن تعيش فى العالم كأنك تعيش فى متحف ضخم من الغرائب.

 

 

 

 وكتب شوبنهاور يوماً كيف أن عامة الشعب محاطين بروائح عطرية تنبعث من محل للعطور، وكيف أنهم يصبحون معتادين هذه البيئة، بحيث أنهم يكونون غير قادرين على تعرّف الجمال المميز لها بعد ذلك.