
عاطف كامل
التفاهة المعلنة
فى عالم متسارع تهيمن عليه الشاشات الصغيرة، أصبحنا نعيش وسط زحام افتراضى، تتصدر فيه مشاهد «الترند» عناوين يومنا، ويعلو صوت من يمتلك جرأة الصراخ على من يمتلك حجة الفكرة.
لم يعد المشهد الرقمى انعكاسًا للواقع، بل تحول إلى واقع بديل تصنعه حفنة من «البلوجرز» و«التيكتوكرز»، يتفننون فى عرض حياتهم الشخصية وتفاصيلهم اليومية، بل وأحيانًا فى خرق كل ما هو أخلاقى أو منطقى، فى سبيل الوصول إلى عدد أكبر من المشاهدات والإعجابات.
فجأة، صار طريق الشهرة لا يمر عبر الثقافة أو الإبداع أو حتى الموهبة، بل عبر مقطع ساخر، أو رقص على أنغام تافهة، أو مشهد مستفز يخدش الحياء
وللأسف، الجمهور موجود ومستعد للتفاعل، لا بل والتصفيق والتقليد، وكأننا أمام مشهد انتحارى جماعى للعقل الجمعى.
هنا يكمن جوهر الأزمة، ليس فقط فى من يصنع هذا المحتوى، بل فى مجتمع بات يستقبل هذا المحتوى كوجبة يومية، بلا مساءلة أو تمحيص.
نحن أمام حالة متقدمة من غياب العقل النقدى، وهو الغياب الذى بدأ منذ الطفولة، حين لم نعلم أبناءنا كيف يسألون، كيف يشكّكون، كيف يميزون بين التفاهة والقيمة، بين الجمال المصنوع والمضمون الحقيقى.
لقد تحولت السوشيال ميديا إلى مساحة شبه مفتوحة، بلا رقابة فعلية أو معايير أخلاقية حقيقية، إلا ما ندر. وأصبحت الشهرة لا تحتاج إلى موهبة أو قيمة أو حتى فكرة.
يكفى أن تتجاوز الخطوط الحمراء، أو أن تقدم محتوى مثيرًا أو مستفزًا، أو حتى منحطًا، كى تصبح «تريند» وتنتشر انتشار النار فى الهشيم. ومن المؤسف أن بعض البلوجرز والتيكتوكرز أصبحوا قدوة ومصدر إلهام للأطفال والناشئة، بدلًا من العلماء والمفكرين والمبدعين.
إن ما نشهده اليوم ليس مجرد «محتوى هابط»، بل أزمة ثقافية وتربوية ممتدة، تبدأ من المدرسة والمنزل، ولا تنتهى عند حدود الشاشة. فحين تُلغى مادة الفلسفة، وتُهمل دروس التربية الجمالية، وتُكافئ الحفظة لا المفكرين، يصبح من الطبيعى أن ينشأ جيل لا يرى فى الحياة سوى ما تعرضه له «الريلز» و«الترندات».
نحن بحاجة ماسة إلى مراجعة شاملة لمفهوم التربية، لا بوصفها تلقينًا، بل بوصفها تشكيلًا للذوق والعقل والروح. نحتاج إلى مدارس تُعلّم أبناءنا كيف يتساءلون قبل أن يُعجبوا، كيف يميزون بين الشهرة والقيمة، بين من يستحق المتابعة، ومن يستغلهم من أجل حفنة من الدولارات.
التربية على العقل النقدى لا تعنى تعليم الرفض من أجل الرفض، بل تعنى بناء الإنسان القادر على التقييم، على الانتقاء، على الوعى بأن ما يُعرض عليه ليس بالضرورة حقيقة أو قيمة.
لا أحد ضد التكنولوجيا أو حرية التعبير. لكن الحرية التى لا يحكمها ضمير ووعى تصبح سلاحًا للدمار الذوقى والعقلى. ولا أحد يطالب بالوصاية، بل نطالب بـ«المسئولية الثقافية»، أن يكون لكل ما يُنشر معيار، ولكل من يُتابعنا حقٌ فى أن نرتقى بذائقته، لا أن نُسهم فى تسطيحها.