الأحد 9 نوفمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

نزيف العواطف.. ودردشات شات جى بى تى

صداقة مع الشيطان

ريشة: مها أبوعمارة
ريشة: مها أبوعمارة

بدأ اعتماد الرجال على الذكاء الاصطناعى يتزايد مع سعيهم إلى الحصول على نصائح تتعلق بالعلاقات والخسارة والندم والشعور بأن الأمور فاقت طاقتهم على التحمل.



يلجأ عدد متزايد من الرجال إلى الذكاء الاصطناعى طلباً للدعم العاطفى فى مواجهة الضغط النفسى، ما يسلط الضوء على تحول هذه الأدوات إلى مساحات حوار بديلة تتطلب معايير أمان وتدخلاً بشرياً لضمان عدم تسببها بالأذى للمستخدمين الضعفاء نفسياً.

«لم يسبق لى أن تكلمت على هذا النحو». كانت تلك من أكثر الجمل التى أسمعها بصفتى مديرة القسم السريرى فى منصة «أنتابد أى آى» المتخصصة بالتدريب القيادى التى تستخدم مزيجاً من الدعم البشرى ودعم الذكاء الاصطناعى.

قضيت أكثر من 10 سنوات فى الإشراف على آلاف العملاء وعلاقاتهم باستخدام مزيج من الدعم البشرى وبرامج معالجة اللغة الطبيعية عن طريق الذكاء الاصطناعى. 

عدد كبير من الرجال الذين عملت معهم لم يسهبوا قبل ذلك أبداً فى الحديث عن حياتهم العاطفية، لكن بعد أربعة عقود من الخبرة فى المعالجة السريرية - بدأت ألاحظ تغيراً فى الآونة الأخيرة. ففى مجال الإشراف السريرى، أجد أدلة أكثر فأكثر عن لجوء العملاء من الرجال إلى الذكاء الاصطناعى للتكلم عن العلاقات والفقدان والندم والشعور بأن الأمور فاقت طاقتهم على التحمل، ويحدث ذلك عن قصد أحياناً لكن غالباً بالصدفة.

عام 2025 يبدو أن أحد أسرع استخدامات الذكاء الاصطناعى للدعم العاطفى.

ووفقاً لمجلة هارفرد بيزنيس ريفيو، فإن توظيف هذه البرامج لغايات «العلاج النفسى» أصبح بين أكثر الاستخدامات شيوعاً فى العالم لها. قد لا تكون هذه الغاية الرئيسة من وراء تصميم هذه الأدوات، لكن هذه هى طرق استخدامها الآن.

لا نملك بيانات دقيقة تماماً بعد - لكن من خلال مراقبتى السريرية، وأبحاثى ومحادثاتى الشخصية، من المحتمل برأيى أن يكون «تشات جى بى تى» الآن أكثر أداة شائع استخدامها لغايات الصحة النفسية فى العالم.

صحيح أن التفاصيل تختلف من شخص إلى آخر لكن السياق العام متشابه.

يبلغ هارى 36 سنة من العمر، يعمل فى مجال بيع البرامج الإلكترونية وهو شديد القرب من والده. فى مايو 2024، بدأت حياته تتداعى: أصيب والده بجلطة خفيفة ووصلت علاقته العاطفية المستمرة منذ 14 عاماً إلى طريق مسدود وصرف من العمل.

ويقول «شعرت بأننى مضطرب فعلاً. أدركت أننى لا أقدم لوالدى ما يحتاج إليه، لكننى لم أعرف كيف أتصرف». حاول هارى التواصل مع أرقام الهواتف الساخنة المخصصة للمساعدة فى هذه الحالات ومجموعات الدعم وجمعية «ساماريتانز» الخيرية ويقول «أبدوا اهتماماً بحالتى لكنهم لم يتحلوا بالعمق الذى احتجت إليه».

فى وقت متأخر من إحدى الأمسيات، فيما كان يبحث فى «تشات جى بى تى» عن تفسير لأعراض والده، كتب سؤالاً مختلفاً «أشعر بأنى ما عدت أملك أى حل. هل يمكنك المساعدة؟». تلك اللحظة فتحت أمامه باباً جديداً. واستفاض فى التعبير عن مخاوفه وارتباكه وحزنه. وسأل عن الاضطراب العاطفى وهو مصطلح تعلمه أثناء البحث، قد يفسر سلوك شريكته.

وقال «لم أشعر بأننى أضع عبئاً على أى أحد»، قبل أن يضيف أن الأخذ والرد مع البرنامج بعد ذلك كان أكثر ثباتاً من خطوط المساعدة الساخنة وأكثر حضوراً من الأصدقاء وخلافاً للمحيطين به.

مع الوقت، تمرن هارى مع الذكاء الاصطناعى على محادثات معقدة لإجرائها لاحقاً فى حياته الواقعية: إنهاء علاقته العاطفية أو إخبار والده بمشاعره الحقيقية. وحين حان وقت إجراء هذه المحادثات وجهاً لوجه، شعر بالثبات والاستعداد واستطاع الربط بين علاقته الاصطناعية وعلاقاته فى العالم الحقيقى.

بعد فترة وجيزة، بدأ هارى رحلة العلاج النفسى. وعندما أسأله عن شعوره إزاء التحدث مع برنامج ذكاء اصطناعى، يصمت قليلاً ثم يقول «شعرت كما لو أننى أتحدث إلى كلب فى مقهى حيث الحديث من دون خوف من الحكم أو الرفض». وتابع بقوله «عرفت أن الذكاء الاصطناعى لن يصدر على أحكاماً سيئة ولن يتعب منى أو يشعر بالإحباط. شعرت أنه واع- لكن غير بشرى. وهذا مما جعل الأمور أسهل بصورة من الصور».

يستطيع هارى أن يميز لكنه يشعر بأن «دعم الذكاء الاصطناعى اتخذ مكانة جوهرية» لذلك استأنف الدردشة. ويستنتج قائلاً «لا أعتقد أننى كنت سأبلغ هذه المرحلة من دونه». يعرف هارى استمرارية العلاقات، أى وجود أشكال مختلفة للعلاقات تزامناً مع بعضها بعضاً بحيث تكون متباينة لكن قادرة على إضفاء معنى وغاية إلى حياتك، باعتبارها مساحة انتقالية وتجريبية.

 فى وقت سابق من العام الحالى. نشرت «نيويورك تايمز» مقابلات مع مستخدمين التمسوا المساعدة من الذكاء الاصطناعى لكنهم وجدوا أن مشاعرهم القوية تعكس وترتد إليهم من دون أى حدود. 

 

 

 

أسرَّ رجل لـ«تشات جى بى تى» بأنه مراقب، فأجابه البرنامج «لا بد أن ذلك مرعب». بدلاً من أن يسأله عن مزيد من التفاصيل، اكتفى بتأكيد شعوره بالارتياب - لم يكن لديه أى فضول لمعرفة مزيد ولا أى اعتراض، خلافاً لما قد يبدر عن الصديق البشرى أو المعالج النفسى. 

وظهرت قصص أخرى فى هذا الإطار.

 فقد وقع مراهق على منصة الدردشة الإلكترونية «كاركتر أى آى» فى شباك علاقة تبعية عاطفية عززت تفكيره بالانتحار.

 أما منصة «ريبليكا» التى بلغ عدد مستخدميها أكثر من 30 مليون شخص فى السابق، فقد وجهت إليها انتقادات بسبب تعزيزها أفكاراً تدخلية لدى أشخاص هشين نفسياً، أفكار غير مرغوب فيها ومزعجة، تقتحم وعى الشخص فجأة وتلح عليه، من دون أن يكون له رغبة أو سيطرة عليها.

 إن احتمال تسبب برامج الذكاء الاصطناعى فى الأذى كبير لذا يجب أن تبنى بصورة مختلفة، وتزود بشبكات حماية أكثر دقة وأنظمة إنذار وتكنولوجيا تسمح بالإشراف عليها فترفع المسألة إلى العنصر البشرى كى يتدخل عند تشغيل هذه الإنذارات.

ويلجأ ملايين المستخدمين إلى أنظمة غير مصممة فى الوقت الحالى لكى تقوم بالمهام التى تطلب منها.. ينطوى هذا السلوك على أخطار حقيقية.

 إن كان النظام مدرباً على التعامل مع المستخدمين ومصادقتهم، فإن مطورى هذه الأنظمة يتحملون مسئولية أخلاقية لتغييرها وتضمينها بروتوكولات أكثر دقة تضمن السلامة و«لا تؤذى» وهذا ما يحصل. 

لكن باعتبارك مستخدماً لهذه البرامج يمكنك أخذ الأمور على عاتقك وتحديد معايير آمنة لعلاقتك الاصطناعية من خلال الأوامر التى تصدرها لها. 

 أوجه المستخدمين الآن لكى يصيغوا عقداً يضبط شكل المحادثة مع الذكاء الاصطناعى - بحيث يملوا عليه طريقة مخاطبته لهم، ومتى عليه أن يقاومهم أو يتحداهم.

 ومن الأمثلة على ذلك «أريدك أن تصغى إلىَّ- لكن عليك أن تخبرنى متى يكون كلامى غير واقعى. الفت نظرى حين يغيب المنطق عن كلامى. وافقنى فى ما أقوله لكن عارضنى عندما يبدو كلامى مغلوطاً. لا تجاملنى. ولا تكتف بتأييدى. إن بدا لك شىء ما غير واقعى، فقل ذلك. ساعدنى كى أواجه الأمور».

 استخدام الذكاء الاصطناعى مختلف عن الخضوع للعلاج النفسى، لكننى أساعد الأشخاص الذين يستخدمون أنظمة مثل «تشات جى بى تى» كى يضفوا جرعة من الواقعية على النظام.

 كثيراً ما كونا ارتباطات عاطفية مع أمور غير حقيقية تماماً، سواء كان ذلك أصدقاء خياليين أم أسلوب حياة المؤثرين أم شخصيات أفاتار افتراضية أم ألعاب الطفولة التى أذبناها حباً. ليس من باب اختلاط الواقع علينا بل لأنها تمنحنا شيئاً لا تعطينا إياه العلاقات الإنسانية أحياناً مثل الأمان والخيال بشروطنا الخاصة. فهى وعاء نضع فيه جوانب من أنفسنا يصعب علينا دمجها مع شخصنا.

عندما كنت فى الخامسة من عمرى، كان لى صديق خيالى اسمه «جاك». كان جزءاً من حياتى. حمل فى داخله الأجزاء التى لم أكن أفهمها بعد من نفسى - كان تجسيداً جريئاً وجسوراً لذلك الجزء. تقبلت والدتى جاك وخصصت له مكاناً على المائدة.

 وساعدنى جاك كى أتمرن على أسلوب التعاطى مع الآخرين- وكيف أتكلم بصراحة وأعبر عن شعور وأتعافى بعد ارتكاب خطأ. شكل لى جسراً بين التفكير والتصرف وبين الداخل والخارج. 

والذكاء الاصطناعى قادر من بعض النواحى أن يمنحنا الشىء نفسه: مساحة انتقالية للتمرين على التصرف بصورة حقيقية وطبيعية من دون الخوف من نظرة الآخرين ولا أحكامهم.

يستخدم الناس التكنولوجيا الآن لتشخيص أنفسهم، وقد يعارضون ما يقوله لهم معالجوهم استناداً إلى «حقائق» استخلصوها من محادثاتهم مع الذكاء الاصطناعى، ومع تطور هذه العلاقات الاصطناعية.

ما أريده بصورة أساسية كمعالجة نفسية هو أن يشارك كل أطباء الصحة النفسية على اختلاف مجالاتهم فى بناء ذكاء اصطناعى آمن وأخلاقى يستخدم لدعم الأفراد الضعفاء المعرضين للخطر. 

معالجة نفسية

نقلا عن إندبندنت عربية