الأربعاء 27 أغسطس 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

.. وألوان المراكب لم تجف

أجمع وأقتنى بشغف مجلة «صباح الخير» منذ المرحلة الإعدادية، أو قبلها ببضع سنين.



كنت أتعجب من ريشة أحد الرسامين الشباب آنذاك؛ فإمضاؤه «مميزة»، كما هى ألوانه. 

أسلوبه الفنى كان يميل إلى تجريد المدرسة التكعيبية، سواء فى الأشكال أو فى مساحات اللون الذى يستخدمه كبطل حقيقى للتعبير  عن إحساسه باللوحة.

 

 

 

وفى الوقت نفسه، كنت أرى الإمضاء نفسها على غلاف مجلة «سمير»، حيث كان يرسم معالجات مصرية لقصص الأدب العالمى مثل «جزيرة الكنز» و«توم سوير» و«طرزان»، أو «رهوان» كما كانت تُقدم فى منتصف السبعينيات وأوائل الثمانينيات، مترجمة عن دور نشر لبنانية، وكما كانت تُنشر على حلقات فى مجلة «تان تان».

إمضاء هذا الشاب كانت هى ما صدمنى.

 فقوة أسلوبه التشكيلى على أغلفة «صباح الخير» تتعارض داخليًا مع قوة فرشاة الحبر التى يصول ويجول بها على غلاف مجلة «سمير»، ومن بعدها، مجلة «باسم» التى قدَّم فيها بابًا يتحدث عن التابعين وتابعى التابعين، وكان يشرف على تحريره العزيز الراحل تامر عبد الحميد.

 

 

 

كان زميلنا الرسام يسافر بخياله الماتع ليصور وجوه وأفعال التابعين، وكأنه أحدهم.

رسوماته الملونة تظهر جلية على صفحات المجلة، إما بتلوينه أو بتلوين أحد أروع الملونين المصريين، الفنان أحمد النبراوى، أو الفنانة نهى حسين، زوجة الفنان الكبير أحمد السيد أمين، رئيس التحرير الفعلى لمجلة «باسم» وقتها.

كان هذا الفنان من أبناء مدن القنال، وتحديدًا محافظة الإسماعيلية.

جُبِلَ هذا الفنان على محبة تفاصيل محافظته الأثيرة، وخاصة مراكب الصيادين، وكأنها معبر لأرواحهم من تقلب أمواج ظروفهم الحياتية والسياسية وصولًا لرسوها المستقر فى جو هادئ ورومانسى.

لذلك، أصبحت المراكب بطلة للكثير من لوحاته، كأنه يسقط اضطراب روحه فى حركة المجدافين اللذين يتحولان بين يديه إلى فرشاة وألوان، وفى عينيه، لوحة «الكانفاس» البيضاء باتساع مد البحر اللامتناهى.

شاركه هذا الشغف أستاذه وأستاذنا جميعًا الراحل الكبير عبد العال حسن، إحدى الريشات الذهبية فى مجلة «صباح الخير». فكان هو الآخر يصول ويجول بين محافظات مصر، لكنه يحمل داخله مركبته الخاصة التى يتوق أن ترسو هادئة على مرساها بين إطارات لوحاته الغالية فنًا وقيمةً.

تتلمذ وتعلم فناننا الشاب أصول السحر من الأستاذ عبد العال حسن، لكن تمرُّد الفنان بداخله أبى أن يوصف بأنه مجرد تلميذ أو متتبع لخطى أستاذه، فتمرد بلوحاته وألوانه الخاصة كى ينفى تلك المحبة عنه، وإن كان داخله يعيش فى محرابها طوال الوقت.

 

 

 

ولكنها هى النفس البشرية بتركيبها الصعب الذى لا يفهمه ولا يفسره إلا خالقها سبحانه وتعالى.

تنقل الفنان الشاب بين إصدارات كثيرة، منها مجلة «صباح الخير» التى زين أغلفة وصفحاتها الداخلية برسوم شخوصه الواجمة طوال الوقت، المحبوسة داخل سجن تفكيرها الذاتى. كانوا جميعًا.. هو نفسه.

قابلته فى معرض ثلاثى، بينه وبين «أبانا الذى علَّمنا السحر والفن»، أستاذنا ميشيل معلوف، والفنان الكبير الأستاذ علاء حجازى.

كان المعرض أشبه بمباراة ثلاثية الفِرق - إن وُجدت - وإن كنت أرى أن روح فنه أقرب للأستاذ ميشيل معلوف، المتخرج بامتياز فى كلية الفنون الجميلة قسم التصوير، والمولع بالفن التاسع «الباند ديسنيه» أو فن الكوميكس.

 وهو من أهم من طوّعوا الدراسة الأكاديمية للفن فى أعمال الكوميكس، أو بالأحرى فن «الرواية المصورة» كما فعلها بعبقرية فى روايته المصورة التى نُشرت على مدار ثلاث مرات فى مجلة «باسم»، «إسكندرية»، التى أرَّخ فيها حبه للمدينة الساحلية وإحساسه بقلبها النابض فى روايته. 

وبالتأكيد لم ينسَ رسم مركبته هو الآخر فى الكثير من لوحاته، المعبرة عن إسكندريته الخاصة وليست عروس البحر الأبيض المتوسط المتعارف عليها.

تناقشنا أنا وهو كثيرًا فى المعرض المقام وقتها بجاليرى «قرطبة»، وفى الفن والصنعة، حتى ساد الهدوء حولنا، واكتشفنا أن الجميع غادر ولم يبق إلا سوانا وثالثنا حب الفن والكوميكس.

قابلته لآخر مرة فى إحدى الجرائد التى كان يعمل بها.

مررت لألقى عليه التحية، فوجدته جالسًا على مكتبه أمام حامل لوحاته فى أرشيف الجريدة! فاستغربت كيف لهذا الفنان الكبير أن يكون مكتبه فى أرشيف الجريدة؟!

 تصافحنا وتحدثنا سريعًا، وألقيت عليه تحية السلام وغادرت.

كان هادئًا كطبعه، واجمَ النظر، كثير التفكير فى عالمه الخاص قبل عالمنا.

ونظرت إلى لوحته قبل المغادرة، فوجدته يرسم مركب صيد بيضاء وخلفها درجات ألوان ساخنة وسعيدة.

فابتسمت داخلى وأنا أعلم قصة عشقه التى لا تنفك بالظهور.

حتى فوجئت اليوم أنه رحل قبل أن يُزيل يسار اللوحة باسمه.. خالد عبد العاطى.