الأربعاء 27 أغسطس 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

المعرض الوطنى البريطانى تاريخ من التزييف!

نزاعات عديدة حول لوحات مختلفة
نزاعات عديدة حول لوحات مختلفة

لطالما اعتُبر المعرض الوطنى البريطانى واحدًا من أهم المتاحف الفنية فى أوروبا والعالم، حيث يضم أعمالًا لفنانين كبار مثل روبنز وتيتيان ورفائيل وغيرهم. لكن خلف هذه الهالة المرموقة، تكشف الوقائع المتتالية عن سلسلة من الشكوك والاتهامات بالتزوير والتلاعب، ما يثير تساؤلات عميقة حول ممارسات التقييم واقتناء اللوحات داخل هذا الصرح العريق.



من أبرز القضايا التى عادت للواجهة مؤخرًا، الجدل المتجدد حول أصالة لوحة «شمشون ودليلة» المنسوبة للفنان الفلمنكى الشهير بيتر بول روبنز، التى اشتراها المعرض عام 1980 بمبلغ وصل إلى 2.5 مليون جنيه إسترلينى.

ومنذ لحظة الشراء، أبدى العديد من الخبراء تشككهم فى صحة نسبتها لروبنز، مشيرين إلى أسلوب ضربات الفرشاة الذى يبدو حديثًا ، فضلا عن أخطاء فى التفاصيل التشريحية للرسوم.

الأمر الأكثر إثارة للريبة هو اكتشاف أن اللوح الخشبى الأصلى تم ترقيقه بشكل مبالغ فيه ثم لصقه على لوح حديث من نوع «بلوك بورد»، ما أخفى علامات مهمة مثل ختم صانع الألواح الذى يُستخدم عادةً لتحديد تاريخ الخشب. 

 

 

 

ورغم اعتراف أمين سابق للمعرض بأن إدارة المعرض هى من قامت بهذا التعديل، فإنه سرعان ما تراجع عن تصريحه، لتبقى الأسئلة بلا إجابة واضحة حتى اليوم.

وسبق واندلع هذا النزاع عام 2021 حول أصالة اللوحة بفضل تكنولوجيا جديدة، رجحت احتمال نسبته 92% أنها ليست من رسم روبنز.

وتفترض صحيفة الجارديان البريطانية أن المعرض الوطنى البريطانى لديه حافز قوى للدفاع عن نسبة لوحة «شمشون ودليلة» إلى روبنز منذ اليوم الذى اشتراها فيه من مزاد كريستيز عام 1980. 

وآنذاك دفع المعرض 2.5 مليون جنيه إسترلينى شاملة العمولات، وهو ما يعادل اليوم نحو 12 مليون جنيه إسترلينى.

وشكك الباحثون فى أصالة «شمشون ودليلة» منذ عقود، خاصة بسبب أصولها غير الموثقة. فهناك وثائق تؤكد أن نيكولاس روكوكس، أحد كبار رعاة روبنز، كلّف الفنان برسم هذه اللوحة حوالى عام 1609، لكن لا يوجد دليل موثوق لمكان وجود اللوحة لمدة تقارب 300 سنة بين بيع ممتلكات روكوكس عام 1640 وظهورها المزعوم عام 1929.

ويتفق المشككون على أن المعرض الوطنى دفع الملايين مقابل نسخة كل ما صدر بحقها من شهادات أصالة خاطئة وصدرت فقط لأسباب تجارية، حسب صحيفة الاندبندنت البريطانية. 

كما أشار الباحثون حسب «الجارديان» إلى اختلافات بين هذه اللوحة ورسوم تحضيرية أخرى للموضوع نفسه يُعتقد أن روبنز رسمها، رغم أن أصالة هذه الرسوم محل جدل أيضًا.

فى حين أكد تقرير لمؤسسة Art Recognition أن: «نظام الذكاء الاصطناعى يقيّم أن اللوحة ليست أصلية بنسبة 91.78%».

وتثير هذه المسألة مشاعر قوية فى عالم الفن، إذ يقول مايكل دايلى، مدير مؤسسة ArtWatch UK البريطانية الذى أجرى أبحاثًا موسعة حول اللوحة، إنه اكتشف جبلًا من الأدلة ضد نسبتها إلى روبنز، واصفًا الأمر بأنه «أكبر فضيحة متحفية على الإطلاق ومؤامرة من أعلى الهرم للتستر على خطأ شراء فادح يشوّه إرث روبنز».

تاريخ من إثارة الجدال!

هذه الفضيحة ليست الأولى فى تاريخ المعرض، شمشون ودليلة لم تكن وحدها محل جدال داخل هذا الصرح الذى يمتلك أيضا واحدة من أكبر مجموعات اللوحات الفلمنكية والهولندية مثل «روبنز» و«فان دايك» ولوحات لرسامى عصر النهضة الإيطالية (مثل تيتيان، بوتيتشيلى، وغيرهما) والتى صارت بمرور الوقت بطلة قضية جديده للتشكيك بين الباحثين حول نسبة تلك اللوحات لفنانين كبار، أم أنها من أعمال مرسم (أى رسمها مساعدين فى الورشة).

 

«شمشون ودليلة» كلّفت المعرض 2.5 مليون إسترلينى رغم تشكيك الخبراء فى أصالتها
«شمشون ودليلة» كلّفت المعرض 2.5 مليون إسترلينى رغم تشكيك الخبراء فى أصالتها

 

وكانت لوحة منسوبة لـ فان دايك محل نزاع حول أصالتها وتم التشكيك فيها فى سنوات التسعينيات، حيث رأى بعض المختصين أنها مرسومة بأسلوب تلميذ أو مساعد وليس فان دايك نفسه.

ولم تكن أصالة اللوحات وحدها محل انتقاد المعرض الوطنى الذى طاله هجوم آخر من بعض مؤرخى الفن بسبب أسلوب الترميم «المفرط» الذى قد يؤدى إلى إزالة طبقات أصلية أو تعديل ملامح اللوحة بشكل يغير روح العمل الأصلى.

ومن أشهر الأمثلة على ذلك، حالة ترميم لوحة «عذراء الصخور Virgin of the Rocks» لـ «ليوناردو دافنشى» التى خضعت لفحص طويل بسبب الترميم المتكرر الذى مسح بعض الظلال الدقيقة.

كما أن هناك أيضًا لوحات هولندية أزيلت منها طبقات الورنيش القديمة وأُعيد دهن بعض الأجزاء مما جعل البعض يتهمون المعرض بتشويه الأعمال.

وتعود أزمات المعرض البريطانى إلى الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضى حيث طالته فضيحة تزييف لوحات بورتريه (صور شخصية) اقتناها المعرض وعرضها على أنها بورتريهات أصلية لشخصيات تاريخية إنجليزية (نبلاء، سياسيين، أدباء وغيرهم). 

ومع الوقت، اكتشف باحثون وخبراء فن أن بعضها ليس له أصل موثق، أو أنه مرسوم بأساليب ومواد حديثة، مما يعنى أنها قد تكون تزويرًا أو إعادة رسم لاحق.

وتمتد الفضائح إلى سنوات السبعينيات السابقة، حيث عرض المعرض الوطنى البريطانى لوحة على أنها أصلية من أعمال الرسام الإيطالى الشهير تيتيان (Titian)، أحد أهم فنانى عصر النهضة. وكانت تُعتبر مثالًا مهمًا على أسلوبه وتُستخدم فى الشروحات الأكاديمية.

لكن مع تطور أساليب التحليل العلمى وفحص الطبقات اللونية وعينات الخشب والقماش، أعاد بعض الباحثين دراسة اللوحة، وتوصلوا إلى أنها على الأرجح ليست بريشة تيتيان نفسه، بل ربما من تنفيذ تلميذ فى ورشته أو حتى منسوخة لاحقًا فى القرن السابع عشر.

وكان سبب الشكوك هو التحليل بالأشعة تحت الحمراء والاختبارات الكيميائية للصبغات الحديثة التى أظهرت أحيانًا اختلافًا عن المواد التى استخدمها الفنانون الأصليون.

وسبب الاكتشاف إحراجًا كبيرًا للمعرض، لأن اسمه يُعد مرجعًا فنيًا عالميًا، مما أعطى الناس انطباعًا أن هناك تهاونًا فى التوثيق العلمى فى تلك الفترة.

هذه الحادثة مع حالات أخرى مشابهة دفعت إدارة المعرض لإعادة فحص لوحات كبار الأساتذة (مثل روبنز وتيتيان وغيرهما) للتأكد من نسبها الحقيقى، ووضعت سياسات جديدة للتحليل الفنى الدقيق والنشر العلنى للنتائج.

قد حدثت تلك الفضائح داخل المعرض الوطنى البريطانى، لتكشف ضعف آليات التحقق والتوثيق التاريخى فى تلك الفترة، وهى حلقة من سلسلة فضائح تزييف واكتشافات لاحقة أثرت على سمعة المتحف وأسلوب عمله حتى اليوم.

الأمر الذى دفع منتقدين كثرًا من خبراء ومقيمى ومؤرخى الفنون إلى القول إن المعرض الوطنى، رغم مكانته الثقافية، لم يكن فى أحيان كثيرة سوى وسيلة لتضخيم قيمة الأعمال تجاريًا وتقديمها للعامة بوصفها «تحفًا أصيلة»، ما يرفع مكانة المعرض ويضمن تدفق التمويل والزيارات، حتى ولو كان ذلك على حساب المصداقية الفنية والتاريخية.