رحيل هادى لروائى صاخب
«صُنع الله» .. الاستثنائى
د. هانى حجاج
لن يُغيِّر طريقة تفكيره، لن يُجمِّل أوصافه لتقتبسها فى مدونتك، لن تحكمه الأساليب السردية ولن ترتدى كلماته الثياب الثقيلة لتحتشم خشية أن تحاكم المضمون بذريعة الظاهر. فكرته عن الهوية واضحة وبالتالى شديدة الغموض. فى روايته (بيروت بيروت) جاء هذا الحوار المختصر:- «ألن تذكر لى ديانتك؟
- وما علاقة ديانتى بالأمر؟
- الدين هو عنوان الشخص.. هويته.. فهو الذى ينظم علاقته بخالقه.
- إذن لا أهمية لتحديده.. كل واحد ينظم علاقته بخالقه وفقًا لدينه، وفيما يتعلق بى فإن الأديان كلها عندى سواء».
أن تصبح كاتبًا ليس «قرارًا مهنيًا» مثل أن تصبح طبيبًا أو شرطيًا. أنت لا تختاره بقدر ما يختارك، وبمجرد قبول حقيقة أنك غير مناسب لأى شيء آخر، عليك أن تكون مستعدًا للسير فى طريق طويل وصعب لبقية أيامك.. بشكل عام، لم يكن يريد أن يكتب بطرق يفعلها الجميع. يشعر بالكسل وعدم التحفيز. يحدث ذلك فقط عندما تستحوذ عليه فكرة ولا يستطيع التخلص منها، عندما يحاول عدم التفكير فيها ومع ذلك فهى تنصب لى كمينًا طوال الوقت... هكذا يبدأ الأمر. الكتاب، فى الوقت نفسه، له أيضًا علاقة بما أسماه بول أوستر طنينًا فى الرأس. إنها نوع معين من الموسيقى التى بدأ يسمعها. إنها موسيقى اللغة، ولكنها أيضًا موسيقى القصة. يجب أن تعيش مع تلك الموسيقى لبعض الوقت قبل أن تتمكَّن من وضع أى كلمات على الصفحة. إنه شعور غامض. هناك غطرسة فى كل هذه التصنيفات التى تسود الوسط الأدبى، ثقة بالنفس تجدها مقيتة، إن لم تكن غير أمينة. كان يحاول أن يكون متواضعًا فى مواجهة حيرته، ولا يريد أن يرفع شكوكه إلى مكانة لا يستحقها. حقًا متعثر. حقًا فى الظلام. لا يعرف الطريق. وإذا كان هذا - ما يسميه الصدق - يرقى إلى ما بعد الحداثة، فلا بأس، ومن أين تأتى الأفكار.. كان يعتقد أنه تأتى فى سن الخامسة أو السادسة تقريبًا لحظة تخطر ببالك فكرة وتصبح قادرًا على إخبار نفسك، فى الوقت نفسه، أنك تفكر فى تلك الفكرة. يحدث هذا الجدل عندما نبدأ فى التفكير فى تفكيرنا. بمجرد أن تتمكن من القيام بذلك، ستكون قادرًا على رواية قصة نفسك لنفسك. لدينا جميعًا رواية مستمرة وغير منقطعة داخل أنفسنا حول هويتنا، ونستمر فى سردها فى كل يوم من حياتنا. فى مقدمة روايته القصيرة (تلك الرائحة) كتب الأديب الكبير يوسف إدريس: «إن تلك الرائحة ليست مجرد قصة، ولكنها ثورة، وأولها ثورة فنان على نفسه، وهى ليست نهاية، ولكنها بداية أصيلة لموهبة أصيلة» وهى أول ما نشر صنع الله إبراهيم فى 1967 بعد خروجه من سجن الواحات. وعندما سألوه فى حوار لمجلة مرايا: «هل أنت تكتب رواية الطبقة الوسطى كنجيب محفوظ؟». كانت إجابته: «هناك فكرة تدور فى عقلى منذ فترة؛ أن معظم الأدب والكتابة والكُتاب كلها نتاج الطبقة الوسطى، هم الذين يتحركون صعودًا وهبوطًا، ويذهبون إلى كل الأماكن، وهم الذين يدخلون السجن، ويهربون».

يحكى صنع الله عن مشاركته حركة حدتو: «فى سنة 1954 كنت فى أول سنة فى الجامعة، وكنت مهووسًا بأحمد حسين، مؤسس «حزب مصر الفتاة»، وكان عنده جريدة اسمها: الاشتراكية، كانت جريدة قوية جدًّا، كان أهم أهدافه هو تحريك الجماهير ضد النظام. يمكننا اعتبار حركته فاشيَّة، خاصة فى بدايتها، وكذلك بسبب تأثره بهتلر، لكن أغلب الناس فى ذلك الوقت كانوا متأثرين بهتلر، يمجدونه لأنه عدو إنجلترا، كنت أرغب فى أن أنضم للحزب الاشتراكي، ولكن لم يكن لديه تنظيم، فذهبت لهم فى مبنى خاص بهم فى الجيزة، فوجدت عادل حسين هناك يلعب تنس طاولة (بينج بونج) كى يكون قريبًا من الجماهير (ساخرًا)، وبدأتُ مناقشات معهم، ثم ذهبت إلى كليتى، كلية الحقوق، وقمت بعمل جريدة حائط باسم: «الحزب الاشتراكى» دون علمهم. كانت المناقشات تدور بين الاشتراكيين وبين «حدتو»، ومنهم من يتهمك بأنك (مُخَوَّخ) لا تفقه شيئًا! وانتهى هذا الصراع القصير بأن انضممت لحركة «حدتو»، حيث جندنى أحد الزملاء السودانيين». ويضيف ضاحكًا: «حتى تلك اللحظة كان فى جيب بنطلونى الخلفى أحجبة صنعها لى والدى لتحمينى من الأشرار، ولم أتخلص من هذه الأحجبة إلا بعد فترة من الوقت، كنت أذهب الاجتماعات الحزبية لـ«حدتو» ترافقنى الأحجبة (ضاحكًا)».

ثم يلخص صنع الله درس العمل السياسى الذى تعلمه من «حدتو» فى كلمة واحدة: «الجماهير.. أهم حاجة أن تكون مع الناس، هذه أهم حاجة. هذا أولًا، وأى شيء آخر غير مهم، أى شخص تسير وراءه الجماهير فهو قائد. و«حدتو» كانت من هذا النوع؛ لأنها حركة مفتوحة لهذا النوع من الناس. أعضاء «حدتو» كان لديهم طريقة ناجحة فى تصيد الشخصيات القائدة بين العمال والطلبة».

بعض الناس قادرون على رواية قصة أكثر أو أقل صدقًا عن أنفسهم. والبعض الآخر متخيلون. إن إحساسهم بمن هم يتعارض تمامًا مع ما يشعر به بقية العالم تجاههم لدرجة أنهم يصبحون مثيرين للشفقة… ثم هناك الطرف المتطرف الآخر، الأشخاص الذين يقللون من شأن أنفسهم فى عقولهم. غالبًا ما يكونون أشخاصًا أعظم بكثير مما يعتقدون، وغالبًا ما يحظون بإعجاب كبير من قبل الآخرين. ومع ذلك، يقتلون أنفسهم فى الداخل. بحكم التعريف تقريبًا، الأشخاص المثاليون هم أقسى البشر (على حد تعبير محفوظ فى صدر روايته أفراح القبة) - والأشخاص الأقل جودة يعتقدون أنهم الأفضل. البشر لا يمكن تقديرهم، ونادرًا ما يمكن التعبير عنهم بالكلمات. إذا فتحت نفسك على جميع الجوانب المختلفة لشخص ما، فعادة ما تكون فى حالة من الحيرة. كان يفكر فى المواطن كنوع من الشجرة أو الجذر... وأن تلك الأجزاء سوف تذبل وقد تضطر إلى قطع فرع للحفاظ على النمو الشامل للكائن الحى. إذا ركزت على إبقائها كما كانت تمامًا، فسوف تموت أمام عينيك يومًا ما. لكى يستمر الوطن، يجب أن يكون عضويًا. عليك أن تستمر فى التطور مع تقدم الأمر حتى يتشابك كل شيء، حتى الغرابة المطلقة فى كل شيء. إنها فكرة قوية. هذا الارتباط الذى لدينا مع الآخرين ومدى أهميتهم فى حياتنا يظهر فى كل ما يكتبه. أهمية الحب: قد يكون من الصعب علينا أن نتحدث عنها بالطريقة التى تستحق أن نتحدث عنها. أن تكتب عن الوطن وعن حب طويل الأمد ومستمر مدى الحياة بكل التقلبات والمنعطفات المحتملة التى سيستغرقها الأمر.


