فعل إليكترونى فاضح!

قضية تناقشها: بسمة مصطفى عمر ريشة: سارة الحسينى
وسط إشادات شعبية بحملة وزارة الداخلية لتوقيف عدد من مقدمى المحتوى المسىء على وسائل التواصل الاجتماعى، عُرفوا بالـ«بلوجرز»، فإن غالبيتهم شباب فى مقتبل العمر، صعدوا سريعًا إلى قوائم الأكثر تداولًا، حاصدين ملايين المشاهدات، من المتابعين الذين يبحثون عن التسلية أو الفضول.
مقاطع قصيرة، وألفاظ خارجة، وإيحاءات لا تخطئها العين، ثم عناوين مثيرة تجذب الزائرين، قبل أن يكتشفوا أن ما وراءها «لا شيء» سوى ضجيج يعلو على حساب القيم، وما كان يبث من غرف مغلقة عبر الشاشات، تحول فجأة إلى ملفات مفتوحة فى أروقة النيابات، وأسماء معروفة على السوشيال ميديا انتقلت من «الترند» إلى خلف القضبان.
ولكن.. خلف هذه المقاطع تطرح أسئلة مهمة، هل هذا المحتوى مجرد حرية شخصية؟ أم تهديد لقيم المجتمع؟ وهل هؤلاء البلوجرز يعملون بجهد فردى عشوائي، أم فى إطار أشبه بـ«تنظيم» غير رسمي، هدفه جنى الأرباح حتى ولو على حساب القيم؟
ومؤخرًا، شنت الأجهزة الأمنية حملات مكثفة، أسفرت عن سقوط عدد من صناع المحتوى، الذين تجاوزوا حدود المنصات والقانون معًا، منهم سوزى الأردنية، ومداهم، وشاكر، وأم مكة، وأم سجدة وليلى الشبح وغيرهم، بعدما انتقلوا من دوائر الشهرة واللايكات إلى زنازين التحقيقات، فلم يعد الأمر يتعلق بـ«مقطع ترفيهي» عابر، بل بتحقيقات رسمية كشفت تجاوزات أخلاقية وقانونية، أثارت جدلًا واسعًا حول سوء استخدام وسائل التواصل الاجتماعي.
ينتمى غالبية هؤلاء البلوجرز لفئة عمرية بين 18 و35 عامًا، وإن كان بينهم الأكبر سنًا، ويمتلكون قاعدة جماهيرية ضخمة على تطبيقات مثل تيك توك، ويوتيوب، وفيسبوك، وإنستجرام، وساهم فى انتشارهم، عوامل متعددة منها سهولة التصوير، وقلة التكاليف، ورغبة الشباب فى كسر التقاليد لجذب ملايين المشاهدات، ومن ورائها أرباح تتجاوز بكثير دخل مهن مستقرة.

«كلمات وصور خادشة»، ووصل الأمر إلى غسل الأموال.. بحسب البيانات الرسمية وتقارير النيابة العامة، التى وجهت لهم تهم أبرزها، نشر محتوى غير لائق وخادش للحياء، حيث يتضمن إيماءات لفظية وإيحاءات بصرية واضحة، والتحريض على الفعل الفاضح أو الإساءة للقيم الأسرية المصرية، والتربح غير المشروع من الإعلانات المشبوهة أو بيع القصص المزيفة، وبعض الحالات شابها ضبط مواد مخدرة، كما فى قضيتى «شاكر» و «مداهم».
ظاهرة أم جريمة؟
تختلف القصص فى التفاصيل، رغم تشابهها فى إساءة استخدام المنصات، وتجاوز القانون.. ويظل محل الخلاف والجدل: من المسئول عن ضبط حدود ما ينشر؟ وهل يكفى القبض على بعض الأسماء ليختفى المحتوى المخل؟ أم أن الحل يبدأ من وعى المجتمع قبل خوارزميات المنصات؟
هذا ما ناقشته «صباح الخير» مع بعض الخبراء المعنيين بالملف.
فمن بين الأصوات التى تحركت قانونيًا ضد بعض البلوجرز، الدكتور أحمد مهران، الخبير القانونى مدير مركز القاهرة للدراسات السياسية والقانونية، وصاحب البلاغات المقدمة ضد عدد من صانعى المحتوى، الذى قال إن هؤلاء الأشخاص ارتكبوا جرائم متعددة، موضحًا أنه تقدم ببلاغات ضدهم، إلى جانب رفع دعوى قضائية تطالب بحجب تطبيق «تيك توك» فى مصر والتى من المقرر نظرها يوم 9 سبتمبر المقبل.
وأشار مهران إلى أن الجرائم المنسوبة لهؤلاء المتهمين، تندرج غالبًا تحت نصوص قانون مكافحة جرائم الإنترنت وتقنية المعلومات، المنظم بموجب القانون رقم 175 لسنة 2018 والقانون رقم 10 لسنة 2004 والتى تضع ضوابط ومعايير للاستخدام الآمن للإنترنت، وتحمى الأفراد من جرائم السب والقذف والتشهير، والإساءة المتعمدة ونشر المحتوى غير اللائق.
وأضاف أن العقوبات المقررة لهذه الجرائم، تتراوح بين 6 أشهر و3 سنوات، حيث تعتبر وقائع نشر المحتوى الفاضح أو غير اللائق، إساءة لاستخدام شبكة الإنترنت، وتحريضًا على الفسق والإخلال بالآداب العامة، ولا يمكن معاملتها كجرائم أفعال فاضحة فقط تحدث فى الطريق العام، بل تتجاوز ذلك لأنها ترتكب عبر فضاء مفتوح يصل إلى ملايين المستخدمين.
فى حين شدد الهيثم هاشم سعد، المستشار القانونى والمحامى بالنقض، على أن المنظومة القانونية الحالية كافية تمامًا لردع صناع المحتوى غير الأخلاقي، سواء من خلال قانون العقوبات، أو بموجب أحكام القانون رقم 175 لسنة 2018، الخاص بمكافحة جرائم تقنية المعلومات، موضحًا أن الأخير يحدد بشكل دقيق، المخالفات المرتبطة بالمحتوى الإلكتروني، وآليات التعامل معها.

ولفت إلى أن المنصات الرقمية الكبرى الراغبة فى العمل داخل مصر، ملزمة باحترام القوانين الوطنية، حيث يرتبط استمرارها بالحصول على موافقات الجهات المختصة، والتزامها بالتعاون مع السلطات المعنية، عند رصد أى مخالفات تمس الأمن أو القيم العامة.
وحول الآليات القانونية لحجب الحسابات أو المحتوى المسيء، أوضح سعد، أن المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، وجهاز تنظيم الاتصالات، هما الجهتان المعنيتان بذلك بموجب القانون رقم 180 لسنة 2018، ولديهما من الأدوات القانونية والتقنية ما يمكنهما من التواصل مع المنصات العالمية، لحجب الحسابات المخالفة أو المحتوى المسيء.
وشدد الخبير القانوني، على أهمية التفرقة بين حرية الرأى والتعبير المكفولة دستوريًا وحق النشر، وبين المحتوى المسيء الذى يتضمن سبًا أو إساءة مباشرة للغير، مشيرًا إلى أن الأخير يعد جريمة تستوجب العقاب وفقًا للقانون.
كما نوه إلى أن البلاغات الفردية من المواطنين تمثل خطوة إيجابية نحو التصدى لهذه الجرائم، لكنها تحتاج إلى تحرك مؤسسى أوسع نطاقًا، وهو ما تقوم به الإدارة العامة لتكنولوجيا المعلومات والنيابة العامة من خلال تحريك الدعوى العمومية واتخاذ الإجراءات القانونية ضد المخالفين.
وأشار إلى وجود أحكام قضائية سابقة، تلزم بحجب القنوات أو الحسابات المسيئة، مثل الحكم الصادر عن محكمة القضاء الإدارى بحجب قناة أحد اليوتيوبرز المخالفين، بعد أن بث محتوى يمس الثوابت الوطنية، وهو ما يبرهن على تكامل الأطر التشريعية والتنفيذية والقضائية، لحماية المجتمع من أى محتوى هابط أو مسيء.
ضوابط صارمة
من جهتها أوضحت الدكتورة سحر السنباطي، رئيس المجلس القومى للطفولة والأمومة لـ«صباح الخير» الدور الذى يقوم به المجلس، فى حماية الأطفال من المخاطر الأخلاقية للمحتوى المنشور على وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة فى ظل تزايد انتشار المحتوى الخادش للحياء، الذى يستهدف جذب المشاهدات على حساب براءة الصغار.
وأكدت أن المحتوى غير الأخلاقى المنتشر عبر منصات مثل «تيك توك»، يؤثر بشكل مباشر على الأطفال والمراهقين، سواء من الناحية السلوكية أو المعرفية أو النفسية، حيث يسهم فى إضعاف بناء القيم لدى الأطفال، ويشجع على اكتساب سلوكيات سلبية ويفقدهم القدوة الحسنة.
وكشفت السنباطي، عن أن المجلس يتلقى عبر خط نجدة الطفل «16000»، العديد من الشكاوى والبلاغات، من أسر أبدت قلقها من تعرض أطفالها لمحتوى غير مناسب، إلى جانب بلاغات تتعلق باستغلال الأطفال تجاريًا، فى إنتاج محتوى يهدف لزيادة عدد المتابعين، مؤكدة أن المجلس يتعامل فورًا مع هذه البلاغات، بالتنسيق مع مكتب حماية الطفل بمكتب النائب العام، لاتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة بحق المخالفين.
وأشارت الدكتورة هالة منصور، أستاذ علم الاجتماع بجامعة عين شمس، إلى أن خطورة تطبيقات شبكات التواصل، ليست وليدة اللحظة، بل سبق التحذير منها كثيرًا، مشددة على أن حظر هذه التطبيقات أصبح ضرورة ملحة، إلى جانب محاسبة العناصر المشاركة فى نشر محتوى مخالف للقيم المجتمعية.

وأضافت أن بعض الأصوات ترى للتطبيقات وخاصة «تيك توك» بعض المزايا، لكن أوضحت أن الفئة المستفيدة من هذه المزايا هى شريحة محدودة من المثقفين، الذين لديهم بدائل أخرى، بينما الغالبية العظمى تستخدمها بهدف كسب الأموال بطرق غير مشروعة، وعلى حساب القيم والخصوصية، وأحيانًا بارتكاب جرائم.
وأشارت إلى أن الدافع الأساسى الجاذب لهذا المحتوى، هو السعى وراء الربح السريع، إلى جانب ما يحتويه من عناصر ترفيهية، وأمور تثير الفضول، وتدفع البعض إلى المتابعة بهدف الإثارة والاستكشاف، مؤكدة أن أسلوب تقديم المحتوى يعتمد بدرجة كبيرة على الابتذال، والغرابة، وخفة الدم المصطنعة.
وأوضحت أن خطورة هذه المقاطع تتضاعف حين يتابعها المراهقون والأطفال، حيث تؤثر على سلوكياتهم بشكل سلبي، وتكشف لهم جوانب لا ينبغى الاطلاع عليها فى هذه المراحل العمرية، فضلًا عن أنها تخلق نماذج وهمية للثراء السريع دون جهد، ما يشجع على التقليد والانحراف.
وأرجعت منصور، تفاقم الظاهرة إلى عدة أسباب، منها انتشار الهواتف المحمولة فى أيدى مختلف الشرائح العمرية، مع ضعف الرقابة على التطبيقات المجانية.
تنظيم أم حجب؟
فى ظل الدعوات المتزايدة لحجب بعض المنصات الرقمية، أو فرض رقابة مشددة على المحتوى المنشور عبرها، يطرح البعض بديلًا أكثر مرونة وواقعية، يتمثل فى إنشاء كيان منظم يشبه «نقابة المؤثرين» أو رابطة صناع المحتوى، وتقوم الفكرة على وضع ميثاق شرف مهنى يحدد الخطوط الحمراء، ويلزم المؤثرين بقواعد وضوابط أخلاقية، تحكم ما يقدم عبر شاشات الهواتف المحمولة.
وبدأت بعض الدول العربية بالفعل اتخاذ خطوات مماثلة، مثل الإمارات والسعودية، من خلال إصدار تراخيص رسمية للمؤثرين، ووضع أطر تنظيمية تضبط المحتوى، وتضمن التزامه بالقيم المجتمعية.
وكشفت الدكتورة نشوة عقل، وكيل كلية الإعلام بجامعة القاهرة، أن الخوارزميات التى تتحكم فى منصات التواصل الاجتماعي، تلعب دورًا رئيسيًا فى انتشار المحتوى الهابط والمخل، وتروج تلك المنصات لهذا النوع من الفيديوهات، لأنه يحظى بنسب مشاهدات عالية، مما يعزز انتشاره تلقائيًا، حتى دون تدخل بشرى مباشر.
وأضافت أن ضعف سياسات الحذف والحجب يسهم فى إبراز المحتوى المسيء، وهو ما يتطلب تحركًا تشريعيًا أكثر حسمًا، خاصة أن العبارات القانونية الحالية المتعلقة بـ«خدش الحياء» و«عدم احترام القيم الأسرية» تظل فضفاضة، ويمكن استغلالها قانونيًا من البعض للتملص من العقوبة.
وعن الجانب التقني، أكدت أن التحكم فى الخوارزميات أمر معقد، لكن التحكم فى وجود المنصة نفسها داخل السوق المصرية أمر ممكن، من خلال الحجب أو فرض سياسات محلية كما فعلت دول أخرى، وهناك بالفعل تأييد شعبى كبير لأى خطوات من هذا النوع.
واقترحت مبادرة لإطلاق برنامج يشبه نموذج «Shark Tank» المخصص لدعم صناع المحتوى الجيد، تحت مظلة جهات مثل كلية الإعلام، أو شركات إعلامية كبرى، يكون هدفه منح الضوء والمساحة لأصوات مبدعة تقدم البديل الحقيقى للترندات الهابطة.
وترى الدكتورة هدى الشاذلي، مدرس أكاديمى بكلية الإعلام - جامعة الأهرام الكندية، أن المنصات الرقمية مثل «تيك توك وإنستجرام»، تضع الربح فى المقام الأول، ما يجعلها فى كثير من الأحيان تروج لمحتوى غير لائق، لجذب أكبر عدد من المتابعين، وترى أن المسئولية لا تقع على هذه المنصات وحدها، بل تمتد لتشمل المثقفين، وقادة الرأي، والأسرة، والدولة.
وشددت على الدور الأساسى للأسرة، للتحكم فى نوعية المحتوى الذى يشاهده الأطفال، خاصة فى ظل وجود محتوى يبث عنفًا بدنيًا أو لفظيًا أو سلوكيات غير مرغوب فيه.
واعتبرت أن الحل لا يكمن فقط فى غلق الحسابات أو حظر الصفحات، بل فى بناء وعى مجتمعى متماسك عبر التربية الإعلامية، وهو ما يستدعى دمج هذه الثقافة فى المناهج الدراسية منذ المراحل المبكرة، حتى يتم تحصين الأجيال فكريًا، ضد التشوهات السلوكية والمجتمعية المنتشرة عبر الإنترنت.