الجمعة 15 أغسطس 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

إبداعات لن تسقط بالتقادم

فى برنامج مسجل للموسيقار الراحل «زياد الرحباني» طلب المذيع أن يوجه رسالة من القلب لأمه من الممكن اعتبارها  وصيته الأخيرة لها.. زياد قال بالحرف الواحد باللغة اللبنانية الفصحى: «لازم تظل تغنى لأن فى صوتك الحالى له طبقة بيتلحن لها كتير يقدر يؤدى ويقول بشكل ممتاز  ودعا زياد لأمه «فيروز» بطول العمر»... والسؤال هنا: هل تتحقق المعجزة وتعود فيروز للغناء؟ وهل أسطورة فيروز ستجدد نفسها وتكون مطربة المستحيل؟



علاقة «فيروز وزياد» كانت مليئة  بالمطبات والخلافات الحادة و«السوابق» ووصلت إلى حد القطيعة على المستوى الأسرى والفني، والمدهش أنها كانت جزءًا لا ينفصل مما قدماه من إبداع عبر أكثر من 40 عامًا هذا الإبداع لن يسقط بالتقادم.

ولأول مرة ما بنكون سوا

روعة الخلافات أنها شكلت إبداعات أسطورية ورسمت محطات مهمة فى مشواره كملحن ومسيرتها كمطربة، والأروع أنها ترجمت إلى أعمال من تأليفه عابرة للأجيال.

 

 

 

مسيرة زياد الرحبانى الفنية مع والدته فيروز بدأت فى سن مبكرة، حيث قام بتلحين أغنية «سألونى الناس» وعمره لا يتجاوز 15 عامًا، جاء هذا العمل فى فترة حرجة، فوالده عاصى الرحبانى فى عام 1972 كان يعانى من نزيف فى المخ خلال التحضير لمسرحية «المحطة»، ولم يقو على العمل فقرر التوقف عن التلحين واستكمل ابنه زياد الرحبانى المشوار من بعده، وحزنت فيروز كثيرًا حيث تعتبر المرة الأولى التى تفترق وتعمل فيها بعيدًا عن زوجها، وظهر هذا الحزن فى مقطع الأغنية الذى يقول: «ولأول مرة ما بنكون سوا»، ليكمل بعدها نجلها زياد مشوار والده ويضع الألحان لأغانى والدته بعد أن حققت الأغنية نجاحًا مدويًا وكتبت شهادة ميلاده ومولد موسيقار عملاق ليقود ثورة تجديد لمشروع فيروز الغنائي. وفى عام 1978 انفجرت الخلافات والمشاكل بين فيروز وزوجها عاصى الرحباني، حتى وصل الأمر إلى الانفصال، وأكمل ما تبقى من عمره مريضًا يرعاه أقرباؤه، حتى توفى يوم 21 يونيو 1986، ورغم الانفصال إلا أن خبر الرحيل صعق فيروز، وفى إحدى حفلاتها الغنائية غنت فيروز وسالت الدموع بغزارة منها، وهى تغنى مقطع أغنية «سألونى الناس» «بيعز على غنى يا حبيبي.. ولأول مرة ما بنكون سوا» وكأن الأغنية التى عبرت عن مشاعر فيروز خلال فترة غياب زوجها عاصي. 

كما وضعت حجر الأساس لزياد وأيضًا تتنبأ بمصير والده مع أمه، التى قدم لها مجموعة كبيرة من الأعمال من أبرزها «كيفك إنت»، و«ولا كيف»، و«عودك رنان»، و«قهوة»، وتقول كلمات أغنية سألونى الخالدة:

سألونى الناس عنك يا حبيبي.. كتبوا المكاتيب وأخدها الهوا

بيعز على غنى يا حبيبي.. ولأول مرة ما بنكون سوا

قلتلن راجع إوعى تلوموني.. سألونى الناس عنك سألوني

غمضت عيونى خوفى للناس..يشوفوك مخبى بعيوني

وهب الهوى وما كان الهوى.. لأول مرة ما بنكون سوا

طل من الليل قلى ضويلي.. لاقانى الليل وطفى قناديلي

طل من الليل قلى ضويلي..لاقانى الليل وطفى قناديلي

ولا تسألينى كيف استهديت.. كان قلبى لعندك دليلي

واللى اكتوى بالشوق اكتوى.

 

 

 

كيفك  انت 

وكما كانت رائعة «سألونى الناس» تؤرخ لنهاية عصر عاصى وبداية عهد زياد فإن أغنية أخرى شهيرة خرجت من رحم أزمة كبيرة، لكن هذه المرة بين فيروز وزياد نتج عنها قطيعة عائلية وفنية استمرت عامين و3 شهور، والفصل الأول للأغنية الشهيرة بدأ حينما هجر لبنان ليتزوج بحبيبته دلال كرم، وسافر زياد ليلبى نداء قلبه ولم يكن قد أبلغ أحدًا بموعد عودته، وعندما عاد قابل والدته فيروز بالصدفة وسألته: كيف انت عم بيقولوا صار عندك ولاد، أنا والله كنت مفكرتك براة البلاد، وهذا المقطع كتبه زياد  من وحى حديثه مع فيروز وقام بتلحينه وعرضه عليها، وترددت فيروز قبل أن تغنيها وكيف أقنعها بها، وذهب زياد إلى زيارة فيروز فى منزلها ومعه شريط يحمل الأغنية بصوته وطلب منها أن تستمع لها، فقالت عندما تأتى الكهرباء ولكن أصر على أن تسمعها فى وجوده، حتى يوضح لها الكلمات، وجلست فيروز تستمع للأغنية فى سكون، ثم سألت زياد: «هيدى شو بدنا نعمل فيها» واستغربت فيروز الكلمات، خصوصًا ملا أنت فترك لها زياد الأغنية لتسمعها وتقرر، لكنها أخذت 4 سنوات حتى وافقت على غنائها، وما زالت الأغنية محفورة فى قلوب جميع محبى جارة القمر فيروز. 

من دون مصارى

 هذه الأغنية الشهيرة التى قدمها بصوته لحبيبته الثانية «كارمن لبس» كما قالت بنفسها فى حوار تليفزيونى بأن زياد كتب لها أغنية «بلا ولا شى» وذلك بعدما جمعتهما علاقة طويلة استمرت 15 عامًا، حيث وصفتها لبس بأنها زواج شفهى غير موثق على ورقة رسمية وكتب وغناها لها تعبيرًا عن حبه لها وتعبيرًا عن حبّ على مشارف الانقراض، حبّ نقي، عصيّ على المادة، ومجرّد من «المصارى والليرات والأراضى والمجوهرات»، إن كان لا يزال هناك من مساحة للحب فى حياتهم، الذين باتوا مكرَهين على عيش تجارب حبّ خالية من النزعة الاستهلاكية التى صبغت العلاقات بالكثير من المظاهر، وأفقدت الحب، أقلّه بالطريقة التى تصوّرها الأغنية، الكثير من صفائه، وتقول كلماتها:

بلا ولا شى ..بحبك بلا ولا شي

ولا فى بهالحب مصاري.. ولا ممكن فى ليرات

ولا ممكن فى أراضى ولا فى مجوهرات

تعى نقعد بالفى مش لحدا هالفي

حبينى وفكرى شوى .. بلا ولا شي

تعى نقعد بالفى مش لحدا هالفي.. حبينى وفكرى شوي

تعى نقعد تعى نقعد.. بلا جوقة أمك بيك

ورموش ومسكرة بلا ما النسوان تحيي

بلا كل هالمسخرة تعى نقعد بالفى مش لحدا هالفي

حبينى وفكرى شوى تعى نقعد بالفي

تعى نقعد بالفى مش لحدا هالفي

حبينى وفكرى شوى ..بلا ولا شي

زياد قدم أغنية «عندى ثقة فيك» من تأليفه وألحانه أيضًا لكارمن وأهداها لها فى عيد ميلادها وهذه الأغنية صارت من أشهر أغنيات فيروز، إن الحب ركيزة أساسية فى كتالوج زياد الرحبانى الغنائى إلى جانب قضايا الواقع الاجتماعى والسياسى فقد عبّر المجدد «زياد» عن مواقف مختلفة فى أغانيه، خاصة تلك التى غنتها فيروز، والتى تتناول قضايا اجتماعية وسياسية.

حبيتك بالصيف 

إبداع مدرسة الرحبانية بالوراثة، فزياد الرحبانى نفسه أعاد التاريخ، واستعاد قصة حب والده لولدته فى أغنية «حبيتك بالصيف» التى تقول:

«بأيام البرد وأيام الشتى.. والرصيف بحيرة والشارع غريق.. تجى هاك البنت من بيتها العتيق.. ويقلا أنطرينى وتنطُر ع الطريق.. ويروح وينساها وتدبل بالشتى».. وهى كلمات أغنية أشهر وأجمل ما غنت فيروز كتبها عاصى الرّحبانى والتى تلمس القلب لها قصة غريبة، بطلتها فيروز، حيث روى الرّحبانى فى أحد الحوارات الإذاعيّة قصّة أغنية «حبّيتك بالصّيف» قال عاصي: قبل أن نتزوّج ضربنا موعدًا لنسجّل أغنية، تأخّرتُ عن موعدنا، وللصّدفة أمطرت يومها، فيما كانت فيروز تنتظرنى على الرّصيف، فظلّت تعايرنى 20 سنة، وتقول: إنت نَطَّرْتَنى عالرّصيف تحت المطر.. فوجدت نفسى أكتب لها أغنية أقول فيها: حبّيتِك بالصّيف، حبّيتِك بالشّتى، ونطرتِك بالصّيف ونطرتِك بالشّتى. ثمّ عدّلناها إلى صيغة المخاطب المذكّر، لتناسب فيروز حين قرّرت أن تغنّيها».

 

 

 

عظمة آثار على الرمال

عظمة كتالوج فيروز الغنائى -الذى ينصح به الطب النفسى للتداوى «أنه كان يؤرخ لمسيرة حياة وقصص حب ملهمة كلها إبداع حتى قدما أغنيات فيها متعة للناس، راجعوا أغنية «شط اسكندرية» و«مصر عادت شمسك الذهب»، فقد كانتا ترجمة لحب المدرسة الرحبانية لمصر وللإسكندرية عروس البحر الأبيض التى شهدت شهر العسل لأشهر عروسين فى الوسط الفنى العربي، ومن شهر العسل عادا إلى بيروت ببشارة قدوم الابن العبقرى زياد الرحبانى لاستكمال كتابة تاريخ كله إبداع وحب بأغنيات خالدة، وهنا لا ننسى مقطوعاته الموسيقية مثل «آثار على الرمال» الذى وصفه عموم أكابر الفكر الغنائى بأنه واحد من المقطوعات الموسيقية العالمية، لاحظوا عنوانه ورسالته، وأيضًا مقطوعة «ميس الريم» فى المسرحية الشهيرة التى تحمل نفس الاسم، وأغان أخرى تعبر عن مواقف  وتغيرات مثل: «عودك رنان»، تعتبر من أوائل الأغانى التى لحنها زياد للرحبانية، وتُظهر تغييرًا فى أسلوب فيروز الغنائي، و«البوسطة»: تتحدث عن قضية اجتماعية هى نقل الركاب بالحافلات (البوسطة) وتأثيرها على الناس، و«أنا مش كافر»، تعبيرًا عن موقف شخصى لزياد تجاه قضايا دينية واجتماعية، و«يا جبل الشيخ»: أغنية وطنية تعبر عن صمود الشعب اللبناني. عبقرية زياد أيضًا استخدامه للأغنيات فى المسرح للتعبير عن مواقفه السياسية والاجتماعية، التى تناولت قضايا الطائفية، الحرب الأهلية، والواقع اللبناني، وكمنبر يعكس قضايا الإنسان العربى فى ظل الحرب، والقمع، والتناقضات الاجتماعية.