السبت 16 أغسطس 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
غرائب «لعبة الأسماء»!

غرائب «لعبة الأسماء»!

أكتب هذه الحكايات والذكريات من الذاكرة واعتمادا على بعض ما أمكن جمعه من مواد وصور، وأترك لنفسى حرية التجوّل فى دوائر الذكرى دون تخطيط مسبق حتى أشعر براحة ومتعة لا تحققها عملية التوثيق الأرشيفية ولا يتحقق معها للقارئ ذلك الشعور بالمتعة والمؤانسة.



ومع أن الحكايات والومضات تتزاحم فى رأسى، ومع أن بعض الأسماء تختفى من شريط الذاكرة بفعل التقادم، وتشابك الأحداث والوقائع والشخصيات والمشاعر، فإن ما يهمنى أكثر هو جوهر كل حكاية أو ومضة أو واقعة.

فى سنواتى الأولى فى «صباح الخير» حدثت لى واقعة طريفة أثارت اهتمامى من وقتها بما أسميه «لعبة الأسماء.. خفاياها وغرائبها»، فقد كنت جالسا فى مكتبى فى الغرفة الرابعة فى الطابق السابع، فإذا بتليفونى يرن.. رفعت السماعة وقبل أن أنطق بأى كلمة فوجئت بالمتحدث يخاطبنى:

 هناك تعديلات فى الملزمة ولذلك علينا وقف الطبع الآن وسوف أحضر لإضافة هذه التعديلات.. لا تطبع الملزمة.  لم أفهم شيئا، ما لى أنا بالطبع والملازم؟ قلت للمتحدث:

أنا منير مطاوع، محرر فى «صباح الخير» .. من حضرتك؟.. ومن تريد أن تحدثه؟

انفجر الرجل ضاحكا وهو يقول: عملها «عوف» (موظف تحويل المكالمات التليفونية).. قلت له اعطنى مدير المطابع وليس منير مطاوع!

تبادلنا الضحكات وعرّفنى بنفسه: أنا الدكتور عاطف عبيد.  

وعرفت أنه أستاذ الماليات فى كلية تجارة عين شمس (على ما أذكر).. وأنه يطبع أحد كتبه التى يبيعها للطلبة فى مطابع «روز اليوسف» التجارية.. وحولته على الحاج محمد إبراهيم مدير المطابع الذى انفجر هو الآخر بالضحك قائلا لي: انت بتشتغل مدير المطابع من ورايا؟!

المهم أنه فى مناسبة أخرى طلب منى مقابلة الدكتور عبيد، فتعارفنا.

(أصبح فيما بعد الوزير الذى أفسد  القطاع العام وعندما عين رئيسا للوزراء ألغى دعم الحكومة الذى قرره كمال الجنزورى لعلاج سعاد حسنى.. فكرهته).

شغل اهتمامى من وقتها ما أسميه «لعبة الأسماء» فوجدت نفسى أرصد حكايات لا آخر لها حول أسماء الناس خاصة المشاهير منهم، وهى حكايات تجمع بين الطرافة والدلالات الأنثروبولوجية المتعددة دينية وقبلية ومعنوية وراء إطلاق الأسماء وتغييرها.. وضيق بعض الناس بأسمائهم التى اختارها لهم الوالدان، واشتهار آخرين بأسماء غير المسجلة فى أوراقهم الرسمية.

 

 

 

تحضرنى فى البداية قصة إحسان عبدالقدوس عندما كان تلميذا صغيرا حيث كان زملاؤه يسخرون من اسمه ويعتبرونه اسم بنت فيعاكسونه بأن يتحدثوا إليه كبنت!

وحكى كاتبنا الكبير أنه ضاق بكل هذا واشتكى لوالده، فما كان من الوالد إلا أن طمأنه بأن اسمه رجالى وله قيمة كبيرة.. وحتى يرضى محمد عبد القدوس ابنه ويعزز إحساسه بأهمية اسمه كتب مسرحية بعنوان «إحسان»!

وحكاية أخرى رواها عبد الله الطوخى فى مذكراته التى نشرت فى «صباح الخير» تكشف عن ضيقه باسمه!

ففى أول لقاء له مع الفتاة التى أصبحت فيما بعد زوجته فتحية العسال، أخفى عليها اسمه لشعوره بأنه قد يفقدها لو ذكره!.. وأعطى نفسه اسما «شيك» من وجهة نظره هو رءوف.

لكن حديثهما امتد لتعرف اسمه الذى حاول إخفاءه عنها: عبد الله، فأبدت سعادتها بهذا الاسم فحكى أن والدته اختارت له هذا الاسم.. حتى يكون موضع الرضا والقبول ويبقى لها، حيث إنه ولد فى قرية ميت خميس، بعد وفاة والده.

 

 
 
 

 

وقد استعاد عبد الله الطوخى ثقته فى اسمه بعد ذلك كما روى فى مذكراته.

أما هى فكشفت له أن اسمها فى شهادة الميلاد فاطمة، لكن الجميع يسمونها فتحية!

حكاية اسم «روز اليوسف»

هذا يذكرنا بقصة اسم فاطمة اليوسف مؤسسة المجلة والدار الصحفية العريقة الرائدة التى تحمل اسمها «روزاليوسف» الذى اشتهرت به كنجمة المسرح المصرى الأولى فى زمانها فى مطلع القرن العشرين.

 أما من أين جاء اسم «روز» ليحل محل فاطمة؟ هى روته فى مذكراتها التى صاغها أحمد بهاء الدين وهو أنها كانت صبية يتيمة رعتها عائلة مسيحية فأطلقت عليها اسم «روز».

وننتقل إلى أحمد بهاء الدين الذى اشتهر منذ كان فى العشرينيات من عمره بكتاباته الجادة فى مجلة «الفصول» التى كان يصدرها محمد زكى عبد القادر، ثم كان موظفا فى قسم التحقيقات القانونية فى مقر وزارة المعارف فى حى المنيرة وكان يكتب مقالات ويتركها لدى موظف الاستقبال فى «روزاليوسف» طالبا تسليمها لرئيس التحرير إحسان عبدالقدوس، الذى كان ينشرها دون أن يعرف كاتبها، ثم طلب حضوره، فالتقيا وقدمه إحسان لوالدته فأعجبت به واعتبرته ابنا لها.

فالذى لا يعرفه كثيرون هو أن «أحمد بهاء الدين» هو اسم كاتبنا الكبير لوحده، ولا يشمل اسم والده مثلا أو لقب العائلة.  فاسمه بالكامل هو: أحمد بهاء الدين عبد العال شحاتة.

 

 

 

ومن أعلام تمصير فن الكاريكاتير على صفحات «روزاليوسف» و«صباح الخير» الفنان الرائد «زهدي» صاحب أول كاريكاتير على غلاف «صباح الخير» وله مع اسمه حكاية، فاسمه هذا من ابتكاره وقد اختاره تعبيرا عن مذهبه فى الحياة: الزهد. أما اسمه الرسمى فهو «طه العدوي».

اسمه لوحده!

ما رأيكم لو انتقلنا إلى عالم الأدب وعميد الرواية العربية نجيب محفوظ لنعرف حكايته مع اسمه؟

فأولا نقول أن «نجيب محفوظ» هو اسمه لوحده، ولا يشمل اسم الوالد أو لقب العائلة. ولأن ولادته كانت متعسرة فى سنة 1911 فقد تم استدعاء أشهر وأشطر طبيب توليد فى مصر الذى نجح فى تجاوز الأزمة وتمت ولادة هذا الطفل الذى وكانت ولادته الصعبة موضع مخاوف والديه فتقديرا للطبيب الذى أنقذه أطلقا عليه اسم هذا الطبيب أستاذ التوليد وأمراض النساء الدكتور نجيب محفوظ.. وهو كما نعلم مسيحى الديانة. 

 

 

 

 

ويحكى كاتبنا الكبير ما تعرّض له من متاعب بسبب اسمه، فقد ضاعت عليه بعثتان بعد تخرجه فى قسم الفلسفة فى كلية الآداب.. بعثة فى الفلسفة والثانية فى اللغة الفرنسية.

ويقول: والقصة هى أن السراى كانت تضطهد الأقباط لأنها كانت ترى أنهم عمد «الوفد».. وقد اشتبهوا فى اسمى ظنا منهم أننى قبطي.. وكنت ثانى دفعتى وكان الأول قبطيا، فقالوا: يكفى قبطى واحد.. وأخذوا الأول والثالث وتخطوني.  

 وقال: «لست حزينا على بعثة الفلسفة ولكنى كنت أتمنى لو أننى ذهبت إلى فرنسا فى بعثة اللغة الفرنسية.. كنت سأتجه بكليتى إلى ما اتجه إليه توفيق الحكيم فى «زهرة العمر» و«عصفور من الشرق»... لكن الأقدار شاءت شيئا آخر.

وحتى لا ننسى فاسم كاتبنا هو نجيب محفوظ عبد العزيز السبيلجي.

  سيد شحم

 

 

 

وعندما كنت أتعاون من الخارج مع جريدة «العمال» الأسبوعية التى كانت تصدر من مقر مطابع الشعب فى شارع قصر العينى على بعد خطوات من «صباح الخير» لاحظت أنها تعتمد فى تحريرها على مشاركات صحفيين ليسوا موظفين فيها مثل سعاد زهير من مجلة «روزاليوسف» وأنا من «صباح الخير» ومحمود على وفاروق أبوزيد وكانا محررين فنيين فى مجلة «الإذاعة والتليفزيون».. وعدد من طلبة كلية الإعلام، ولم يكن معينا فى الجريدة سوى محرر واحد اسمه مناسب جدا للعمل فى جريدة «العمال» هو سيد شحم!

وهناك حكاية لقب العائلة التى حكمت سوريا لأكثر من نصف قرن من الزمان وحولتها إلى جمهورية ملكية وراثية!.. كان اسم قائدها حافظ الوحش، لكن جمال عبدالناصر قال لا يصح أن يكون حاكم سوريا وحشا!.. فكان أن غير الرجل لقب العائلة إلى «الأسد».

أما الزعيم الخالد جمال عبد الناصر، فاسمه الذى اشتهر به لا يشمل لقب العائلة وإنما هو أسمه واسم والده فقط.. لكن لقب العائلة هو «حسين».

ومن ذكرياتى فى «لعبة الأسماء» هذه أن عمى الصغير الذى كان يكبرنى بعدة سنوات كان اسمه فاروق، وعندما أصبح فى سن العمل وتقدم للحصول على وظيفة فى أكثر من جهة إلا أنه كان مرفوضًا فى كل مرة.

فقد كان اسم فاروق مكروها فى بدايات عهد ثورة يوليو وبعد القضاء على الملكية وطرد الملك فاروق، ولم يجد عمى الشاب فاروق أحمد مطاوع مفرا من تغيير اسمه رسميا إلى مطاوع أحمد مطاوع.

 ولا يحتاج الأمر لشرح حيث لقى كل الترحيب عندما تقدم للوظيفة التى عمل بها لمجرد تغيير اسمه!

 

 

 

   ولو دخلنا عالم الفن فهنا تمارس «لعبة الأسماء» بكثرة وبلا نهاية وتحضرنى قصة عبد الحليم حافظ فهذا ليس اسمه المسجل فى شهادة ميلاده «عبد الحليم شبانة».

فى بداياته الأولى وبسبب تشجيع حافظ عبد الوهاب مدير محطة إذاعة الإسكندرية وتقديمه من خلالها كمطرب جديد وليس فى مهنته الأولى كعازف على آلة «الأوبوا» فى إحدى الفرق الموسيقية.. قرر أن يكون «حافظ» هو لقبه الفنى بدلا من شبانة.

سعاد حسنى؟

اختيرت فى سن 16 سنة لتقوم ببطولة فيلم «حسن ونعيمة» من إخراج هنرى بركات، وفكر المخرج ومن معه فى أن يختاروا لها اسما فنيا.

 فرأى بعضهم أن يكون اسم النجمة الجديدة سعاد فؤاد، بينما وجد فريق منهم أن من الأفضل أن تحمل اسم سعاد توفيق!.. 

وبالعودة إلى منتج الفيلم ليختار أحد الاسمين، واجههم بالقول إن سعاد حسنى اسم فيه موسيقى وجمال.. فالمنتج كان الموسيقار محمد عبد الوهاب.

أما الرائعة تمثيلا وغناء وإشاعة للبهجة «صباح» فاسمها جانيت جرجس فغالي.. والعظيمة التى لا تتكرر «فيروز» اسمها نهاد حداد.. وطبعا أشهر فنان مصرى عالمى هو عمر الشريف واسمه أصلا «ميشيل ديمترى شلهوب».

وأختم هذه الجولة الطريفة بحكاية تخصنى، ففى مطلع الثمانينيات عندما اشتركت فى تأسيس وإطلاق مجلة «سيدتي» فى لندن، كنت أكتب فى صحف كويتية ووشى بى شخص لا أعرف من هو فطلبت منى رئيسة التحرير السعودية أن أتوقف عن الكتابة خارج المجلة فما كان منى إلا أن تحايلت على ذلك بأن اخترت لنفسى «اسمًا» آخر أوقع به كتاباتى فى صحف الكويت هو «أحمد منير»!

وفى الأسبوع المقبل نواصل