الإثنين 1 سبتمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

أول رواية كتبها نجيب محفوظ وعمره 16 سنة!

أكتب هذه الحكايات والذكريات من الذاكرة واعتمادا على بعض ما أمكن جمعه من مواد وصور، وأترك لنفسى حرية التجوّل فى دوائر الذكرى دون تخطيط مسبق حتى أشعر براحة ومتعة لا تحققها عملية التوثيق الأرشيفية ولا يتحقق معها للقارئ ذلك الشعور بالمتعة والمؤانسة.



ومع أن الحكايات والومضات تتزاحم فى رأسى، ومع أن بعض الأسماء تختفى من شريط الذاكرة بفعل التقادم، وتشابك الأحداث والوقائع والشخصيات والمشاعر، فإن ما يهمنى أكثر هو جوهر كل حكاية أو ومضة أو واقعة.

 

 

 

 

هذا اكتشاف مثير.. 

وأعتقد أنه أهم ما حققته فى مجال التحقيق الصحفى الثقافى التوثيقى، فقد قدمت للقارئ المصرى والعربى ما اعتبرته تحفة ثمينة.. صغيرة الحجم، كبيرة القيمة، يصعب تثمينها، فهى لا تقدر بثمن.

وأضفت: لا علاقة للمسألة بالأثمان، بقدر ما هى «تحفة أدبية». 

فبماذا يمكن وصف مخطوطة أول رواية كتبها عميد الرواية العربية نجيب محفوظ.. والحائز الوحيد لجائزة نوبل للأدب من العرب؟

وكانت «صباح الخير» تنشر لى وقتها رواية «سبع جنات».. فكان من الطبيعى أن تحتفل بنشر قصة هذا الاكتشاف، أعرق مجلة عربية معنية بالثقافة والفكر والأدب «مجلة الهلال» التى تصدر فى القاهرة منذ سنة 1892. ففى عدد أغسطس 2014 كان هذا الاكتشاف عنوان الغلاف:

 «من عام 1927.. مخطوطة نادرة لأولى روايات نجيب محفوظ» 

كتب الطالب - وقتها – نجيب محفوظ وعمره 16 سنة، الرواية بخط يده فى كراسة مدرسية صغيرة الحجم تعود – كما هو مكتوب على غلافها بالحبر الأحمر وبخط يد نجيب محفوظ – إلى العام 1927.

إنها مخطوطة رواية «الأحدب».. البداية المبكرة جدًا لمؤلفها الذى تصفه دراسات نقدية وبحثية أكاديمية مصرية وعربية وعالمية بأنه مؤسس وبانى عمارة الرواية العربية الحديثة ومجددها وراسم مجراها ومنجز أهم نتاجاتها.

لم يرد ذكر رواية «الأحدب» فى أى من أحاديث نجيب محفوظ التى بلغت المئات وربما الآلاف طوال الوقت، هذا عدا الكتب التى كانت أحاديث مطولة وذكريات لكاتبنا القدير، فلماذا لم تأت إشارة لها من جانبه.. ولو على سبيل تداعى ذكريات البدايات؟

 

 

 

يرى دارسو ومحققو تاريخ محفوظ الأدبى أنه تعمد عدم الإشارة، بل وإنكار بعض أعماله وقصصه الأولى، حتى ما نشر منها فى بعض المجلات الأدبية والثقافية.

فهل جاءت «الأحدب» روايته الأولى ضمن قائمة الإبداعات التى يتعمد نسيانها أو إنكارها؟

حتى العدد الذى خصصه رجاء النقاش عندما كان رئيسًا لتحرير مجلة «الهلال» عن نجيب محفوظ فى فبراير سنة 1970 والذى تناول جميع ما يمكن تناوله عنه على مدى 212 صفحة وشارك فى كتابته حشد من الكتاب والنقاد والأكاديميين، لم تأت فيه أى إشارة إلى هذه الرواية التى ظلت مخطوطة إلى أن اكتشفت وجودها..

وفيما يتعلق بحق الأديب فى تجاهل بعض أعماله الأولى بحيث لا يشير إليها أو لا يضمها إلى مجموعاته القصصية وكتبه، فقد اختلف الباحثون، إذ يؤيد بعضهم موقف الأديب من إبداعاته الأولى التى يرى تجاهلها.

ولم يكن نجيب محفوظ وحده من أنكر أو تعمد إسقاط أعماله الأولية، فهناك أعمال لعبد الحميد جودة السحار ومحمد عبدالحليم عبدالله ومحمود البدوى وأمين يوسف غراب وسعد مكاوى وعبد الرحمن الشرقاوى وغيرهم لاقت المصير نفسه.

 يرى آخرون أنه إذا كان من حق نجيب محفوظ أن يسقط نحو 46 قصة منشورة فمن حق الباحثين أن ينقبوا ويظهروها فى المستقبل، فمع ذلك تبقى لها القيمة التاريخية المتعلقة بتطور الأدب والأديب نفسه.

وعن سبب عدم كتابته مذكراته قال نجيب محفوظ فى رد على سؤال وجهه له فى سنة 1970 الدكتور مصطفى سويف، عالم الاجتماع المهتم بالإبداع قال: «إن فكرة كتابة السيرة الذاتية تراودنى من حين لآخر، أحيانًا تراودنى كسيرة ذاتية بحتة وأخرى تراودنى كسيرة ذاتية روائية، ولكن الالتزام بالحقيقة مطلب خطير ومغامرة جنونية خاصة أننى عايشت فترة انتقال طويلة تخلخلت فيها القيم وغلب الزيف وانقسم فيها كل فرد إلى اثنين أحدهما اجتماعى تليفزيونى والآخر ينفث حياة أخرى فى الظلام.

وقد نشر أول أعماله الروائية «عبث الأقدار» عام 1939 وكانت مستلهمة من الحياة المصرية القديمة (الفرعونية) بعد 12 عامًا على كتابته لروايته المخطوطة «الأحدب» المستلهمة من الحياة الفرعونية.

 

 

 

■ ■ ■

وعودة إلى بيانات المخطوطة فهى مكتوبة على الغلاف كالتالى: 

مؤلفات نجيب محفوظ (1) بخط الرقعة

أما عنوان الرواية فمكتوب بخط الثلث وبحروف أكبر:

الأحدب أو «هار ما كيس»

وتحته بخط أصغر – تاريخ الكتابة: سنة 1927. 

وإذا فتحت الصفحة الأولى ستقرأ بخط الرقعة وبالقلم الرصاص:

«مقدمة المؤلف»

تلك الرواية عبارة عن مذكرة تشمل حياة «هار ما كيس» المصرى خادم إزيس (مكتوبة هكذا، وليس «إيزيس» كما نكتبها الآن) إله (مكتوبة هكذا وليس إلهة) مصر القديمة.

ها هو «هار ما كيس» يصور لكم بقلمه شكل (وليس شكلاً) من أشكال مصر قديمًا، ويعترف بجرائمه التى أدت به إلى أسفل مكان يمكن الوصول إليه، ويذكر الأسباب التى أدت لإجرامه.

ترجمت تلك المذكرة من الكتابة الهيلوغرافية (هكذا كتبها الصبى نجيب محفوظ، وليس «الهيروغليفية» كما نكتبها الآن) إلى العربية بواسطة عالم عظيم، ونقلتها فى صفحات روائية لما فيها من العظات البينات، وأردت أن يكون خطأ «هار ما كيس» درسًا حكيمًا لغيره/ فيمكن الحذر من الوقوع فى مثله.

المؤلف

وتمضى فصول الرواية:

الفصل الأول: طفولتى – الفصل الثاني: أنا و«سيتو» – الفصل الثالث: (عنوان طويل انمحت بعض حروفه فلا تظهر منها سوى كلمات) المعبد – لمساعدة الأم – انتصارنا.

الفصل الرابع: الدعوة- القسم – تتويجى – مقابلة الأم المقدسة – ضحكة أفروديت.

الفصل الخامس: على شاطئ سيحور- فدية أفروديت – نهاية سيكو. 

الفصل السادس: خلاف المهد - آخر قبلة – حكم إيزيس. 

الفصل السابع: أفروديت – جنايتى – انتحار مريمون – تسليمى نفسى – عبرات.

وفى الصفحة قبل الأخيرة نقرأ: نهاية الرواية. وعلى الصفحة الأخيرة نقرأ: تظهر قريبًا رواية «فيرونيكا» (وبعدها كلمة «أو هدية التمثيل»، لكن يبدو أنه محاها وبقى أثرها) تأليف نجيب محفوظ.

 

 

 

تحفة مثيرة للتساؤلات

يقتضى الأمر أن نقول إن هذه المخطوطة النادرة هى تحفة مثيرة للتساؤلات، فهل بلغ نجيب محفوظ فى هذه السن اليافعة اليانعة حد العلم بأجواء الحياة المصرية القديمة لدرجة تأليف رواية عنها؟ وهل كان فى تلك السن التى تتعدى المرحلة الابتدائية إلى البكالوريا ربما، قادرًا على، ومقررًا بوضوح، اختيار الأدب وكتابة الرواية على وجه الخصوص كمسار مستقبلى؟

الاطلاع على الخط المتقن والتنوع فى الكتابة بخط الرقعة فى نص روايته وخط الثلث فى عنوانها يكشف عن مواهب عدة ووضع عبارة «مؤلفات نجيب محفوظ» كعنوان تمهيدى يشير إلى أن هذه لن تكون روايته الأولى! وفى الصفحة الأخيرة إشارة إلى رواية مقبلة هى «فيرونيكا».

رواية لا ندرى عنها شيئًا.. هل كتبها؟ وأين هى إذن؟

ومع أننا قد نرى أنه أخطأ فى عبارة اللغة الهيلوغرافية، فإنه ربما كانت هذه هى التسمية الشائعة وقتها سنة 1927. وقد أخطأ الفتى محفوظ فى تهجى اسم الإلهة إيزيس فكتبه «إزيس»، لكنه فى متن الرواية وفى عناوين بعض فصولها يورد الاسم صحيحًا وربما كانت المرة الأولى سهوًا أو مجرد «زلة قلم».

هذه وغيرها أمور تقتضى توفر الباحثين المتخصصين عليها لدرس النص الروائى والتحقق من أصالته واستكشاف دلالاته، وما إذا صحت نسبته إلى محفوظ.

يبقى كيف اختفت طوال هذا الزمن.. نحو 87 سنة؟

ومعنى هذا أن نجيب محفوظ بدأ رحلته الإبداعية فى ذلك العمر (16 سنة) واستمر يبدع على مدى نحو 78 عامًا حتى رحيله عام 2006.

■ ■ ■

الغريب فى الأمر أن أحدًا من المعنيين بأمور الأدب والرواية والثقافة عمومًا لم يهتم بهذا الاكتشاف، فوزارة الثقافة التى كان يتولاها وقتها الدكتور جابر عصفور أحد أكثر المهتمين بدراسة الأدب والرواية والذى اشتهر بمقولة أننا نعيش عصر الرواية، لم تبد الوزارة ومجالسها المتخصصة ولجنة القصة فى المجلس الأعلى للثقافة أى اهتمام بأمر هذا الاكتشاف ووضعه موضع البحث والدراسة.

وهكذا كان الحال مع اتحاد الكتاب وأيضًا الباحثين والأكاديميين المعنيين بالأدب وتاريخه ومنجزاته وأعلامه.

لماذا لا يتدخل اتحاد الكتاب المصريين أو اتحاد الأدباء العرب فى السعى لكشف الغموض حول هذه المخطوطة النادرة التى ستكون فاتحة عهد جديد لدراسة أدب نجيب محفوظ.. وربما تاريخ الرواية المصرية والعربية عمومًا.

وقد يسأل سائل: وماهى حكاية اكتشافك هذا؟.. كيف تيسر لك؟ فأجد أن ذلك حديث يطول ويستحق أن نتناوله لاحقًا.

ولعلنى بعد أكثر من 11 سنة على نشر الاكتشاف، أتطلع لأن يلقى الاهتمام والبحث والفحص، وأعتقد أن قراء وعشاق أدب نجيب محفوظ يهمهم أن يتابعوا كل ما يتعلق بإبداعه منذ بداياته لأن فى ذلك تعمقًا فى عالم هذا المبدع الكبير.

وفى الأسبوع المقبل نواصل