
عادل حافظ
بداية جديدة
فض اشتباك
بعد نشر مقالى «العبقرى المغمور» على صفحات مجلة صباح الخير فى 22 أبريل الماضى، والذى تناولت فيه قصة «تيم بيرنرز لى» مخترع الإنترنت، وردتنى العديد من التعليقات والرسائل من القرّاء. البعض تساءل: «أليس الدكتور حاتم زغلول هو من اخترع الإنترنت؟»، وآخرون أكدوا أنه المخترع الأوحد للواى فاى.
رغم عفوية التفاعلات، نكتشف حالة من الخلط الشائع بين الأدوار المختلفة فى عالم التكنولوجيا، وبين مفهومى الابتكار العلمى والتنظيم الهندسى. وقد دفعنى ذلك إلى محاولة تفكيك هذا الالتباس فى أذهان الكثيرين، من خلال عرض قصتين متوازيتين؛ بطل الأولى عالم مصري، وبطل الثانية مهندس هولندي، وقد ارتبط اسم كل منهما بتقنية غيّرت وجه العالم.
تبدأ الحكاية الأولى فى القاهرة. حيث وُلد «حاتم زغلول» عام 1957، ودرس فى جامعة القاهرة حتى نال بكالوريوس فى الهندسة الكهربائية. كما حصل على الماجستير من جامعة عين شمس. وهاجر بعدها إلى كندا لدراسة الدكتوراه، وهناك شق طريقه العلمى فى مجالات الاتصالات الرقمية.
فى عام 1992، وبالتعاون مع زميله الدكتور «ميشيل فتوش»، توصلا إلى تطوير تقنيتين ثوريتين، الأولى تعتمد على تقسيم الإشارة اللاسلكية إلى عدد كبير من الترددات المنفصلة تُرسل بشكل متزامن، ما يرفع سرعة نقل البيانات بشكل كبير، أما الثانية، فتعمل على نشر الإشارة الرقمية على مدى واسع من الترددات باستخدام رموز متعددة، ما يجعل الاتصال أكثر أمانًا واستقرارًا.
شكلت هاتان التقنيتان حجر الأساس للبنية التى قامت عليها - فيما بعد - تقنيات مثل الـ «واى فاى»، وهى وسيلة الاتصال اللاسلكى بالإنترنت داخل المنازل والمكاتب، وتقنية الـ «واى ماكس»، هى تقنية مشابهة لكن مخصصة لنقل البيانات عبر مسافات أطول، كما ساهم فى تمهيد الطريق للجيل الرابع من أنظمة الاتصالات (4G) التى أتاحت للمستخدمين الوصول للإنترنت عبر الهواتف المحمولة بسرعات كبيرة.
لم يكن عمل زغلول مقصورًا على تطوير نظري، بل تم تطبيقه عمليًا فى صناعة تكنولوجيا الاتصال اللاسلكي، ما ساعد فى دمج تلك الابتكارات فى شبكة الإنترنت العالمية.
أما الحكاية الثانية، فتبدأ فى الشرق أيضًا، ولكن من زاوية جغرافية مختلفة. ففى مدينة «سورابايا» الواقعة فى «جزر الهند الشرقية الهولندية» - ما يُعرف اليوم بإندونيسيا -، وُلد «فيكتور هايز» فى 1941.
وفى مرحلة دراسته فى الجامعة، انتقل إلى هولندا حيث درس الهندسة الكهربائية فى «جامعة دلفت للتكنولوجيا.» فى بدايات التسعينات، عُين رئيسًا للجنة «IEEE 802.11» وهو الاسم الهندسى الرسمى لمجموعة المعايير التى تُستخدم كأساس لتشغيل شبكات الواى فاى فى الأجهزة حول العالم - التابعة لمعهد المهندسين الكهربائيين والإلكترونيين، وهى اللجنة المسئولة عن وضع المعايير التى تُنظم كيف تتواصل الأجهزة المختلفة بالإنترنت والشبكات الأخرى لاسلكيًا.
بمعنى آخر، لم يبتكر هايز التقنية من الصفر، بل كان له دور محورى فى تنظيمها وتحويلها إلى معيار عالمي، مما جعلها متاحة للتطبيق فى كل جهاز تقريبًا حول العالم.
ما فعله هايز يُشبه إلى حد كبير ما تفعله اللغة المشتركة بين البشر، فقد وضع قواعد التواصل بين الأجهزة. ولهذا، لُقّب لاحقًا بـ «أب الواى فاى»، وهو لقب دعمه الإعلام الغربى ومؤسسات التكنولوجيا الكبرى. أما اسم الدكتور حاتم زغلول بقى اسمه غائبًا عن السردية الإعلامية، باستثناء بعض الإشارات العابرة هنا وهناك.
المفارقة أن كلًا من هايز وزغلول، رغم اختلاف موقعهما فى الحكاية، لا يلغيان بعضهما البعض. فالابتكار بدون تنظيم يبقى حبيس المختبرات، والتنظيم بدون ابتكار لا معنى له.
الأجمل فى قصة حاتم زغلول أنها لم تتوقف عند حدود الابتكار. بل بعد سنوات من العمل التقني، بدأ يتحول إلى العمل الاجتماعى والاقتصادي، فأسس شركات ركزت على نشر الإنترنت بتكلفة منخفضة فى المناطق المهمشة، باعتماد نماذج تمويل حديثة وتقنيات لا مركزية، حيث لم تكن التقنية هدفًا فى حد ذاتها، بل وسيلة لتمكين الإنسان وتطويره.
وبينما نغلق هذه الصفحة من الحكاية، يبقى الدرس الأهم: أن الحقائق ليست دائمًا ما يُروى فى العناوين، وأن البحث والتمحيص هما مسئولية كل من يسعى للتعلم واكتساب المعلومات العامة.
من خلال هذه القصة، نتعلم أن التاريخ التكنولوجى ليس سطرًا واحدًا باسم واحد، بل هو شبكة من العقول والظروف والمعايير.
لذا، علينا ألا نأخذ ما يُقال كمسلمات، بل أن نعود دائمًا للبحث عن المصادر الموثقة، ونقرأ بوعي، ونمنح العقول التى صنعت الفرق - أينما كانت - حقها فى الاعتراف والتقدير.