
د. عاصم الدسوقى
كيف أصبحت 30 يونيو امتدادًا لـ «23 يوليو»؟
إذا كانت ثورة الشعب فى 30 يونيو 2013، هى الإعلان العملى والممهد لتأسيس الجمهورية الثانية فى مصر 3 يوليو، فإن حركة الضباط الأحرار فى 23 يوليو 1952، كانت الخطوة الأولى لإعلان الجمهورية لأول مرة فى البلاد فى العام التالى 1953.
الميلاد الجديد لجمهورية يوليو، وإن كان امتدادا للجمهورية الأولى فى المبادئ العامة والأساسية والحفاظ على استقلال ووحدة وسلامة البلاد، فإن أولويات الجمهوريتين والتحديات التى واجهت كلا منهما قد اختلفت. فى يوليو 2013 كان الخلاص من الفاشية الدينية أولوية، وفى يونيو 1953 كان الهدف إنهاء النظام الملكى وتأسيس الجمهورية الأولى.

ويرى مؤرخون إنه عندما تمكّن الضباط الأحرار بقيادة جمال عبدالناصر من الاستيلاء على السُّلطة ليلة 23 يوليو 1952 لم يُعلنوا الجمهورية فورًا، وإنما آثروا التريُّث حتى لا يفتحوا باب المناورات ضدهم، وبدا الأمْرُ وكأنهم ليسوا ضد النظام المَلكى القائم.
ومن دلائل هذا الموقف تكليف على ماهر باشا، أحد رؤساء الحكومات السابقين وأحد رؤساء الديوان المَلكى، بتأليف الوزارة، لكنه طلب أن يتم تكليفه بشكل طبيعى من المَلك فاروق، فكان له ما أراد يوم 24 يوليو، وكانت تلك مناورة من الضباط لطمأنة المَلك وعدم استعدائه. وانتهى الأمر بتنازل المَلك عن العرش لابنه أحمد فؤاد (26 يوليو)، وغادر البلاد فى اليوم نفسه إلى إيطاليا على ظهر المركب المَلكى (المحروسة) وتم توديعه رسميّا.
ثم بدأ الضباط يكشفون بالتدريج عن أهدافهم لتحقيق الاستقلال بإجلاء الإنجليز، وبدأت المفاوضات فى أبريل 1953، وفى أثناء التفاوض اكتشف الضباط اتصالًا بين عناصر النظام المَلكى الذين غادروا مصر والمخابرات البريطانية لإعادة المَلك فاروق لحُكم مصر، فما كان من مجلس قيادة الثورة إلّا أن أعلن الجمهورية فى 18 يونيو 1953 لقطع الطريق على أعداء الثورة.
■ ■ ■ وبإعلان الجمهورية، بدأت عملية التغيير الجذرى لسياسات الحُكم التى جعلت من الجمهورية حدّا فاصلًا بين عهدين، ومعها بدأ الانقسام السياسى بين المصريين فى الولاء للجمهورية أو معارضتها، وذلك حسب المصالح والتوجهات. أمّا الذين أيّدوا الجمهورية فكانوا أولئك الذين أفادوا من الإجراءات التى تم اتخاذها وهم أبناء الطبقة الوسطى والعمال والفلاحون وهم يمثلون الغالبية الغالبة للشعب المصرى. وأمّا الذين وقفوا ضد الجمهورية فكانوا الذين أضيرت مصالحهم الاقتصادية ومكانتهم الاجتماعية بفعل السياسات «الثورية» الجديدة أولًا بأول، خصوصًا مع بدء تطبيق مبادئ الثورة من حيث القضاء على الاستغلال وسيطرة رأس المال على الحُكم والقضاء على الإقطاع، وإقامة عدالة اجتماعية.

وهكذا.. مع كل إجراء سياسى واقتصادى- اجتماعى اتخذته الجمهورية الجديدة كان الانقسام السياسى يَحدث بين مؤيد ومعارض، ولأن الجمهورية الجديدة كانت تمثل مصالح الغالبية الغالبة من أبناء الشعب المصرى فكان أنصارها يكثرون يومًا بعد يوم فى مقابل اضمحلال أعدائها وانزوائهم فى طيّات صفحات التاريخ.
ولم يقتصر تأييد الجمهورية الجديدة على غالبية الشعب المصرى فقط، بل لقد امتد تأييدها إلى الشعوب العربية وشعوب إفريقيا، بل وشعوب العالم الثالث، بفضل تبنّى جمال عبدالناصر قائد الثورة، قضايا تحرير الأمة العربية وشعوب إفريقيا من الاستعمار عندما انضم إلى مجموعة الحياد الإيجابى فى باندونج (أبريل 1955).
وبفضل الجمهورية الجديدة التى نجحت فى استخلاص القرار السياسى لصالح جماهير الشعب المصرى تمكنت من تغيير طبيعة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بما حققته من مكتسبات أولًا بأول محليّا وعربيّا وعالميّا على النحو الآتى:
محليّا: كانت البداية فى الحياة السياسية الجديدة تشكيل تنظيم سياسى جديد باسم «هيئة التحرير» يضم القوى الوطنية صاحبة المصلحة فى الوضع الجديد استبعد من صفوفه كل من ارتكب جريمة فى حق الوطن، وكل من عاون أجنبيّا للإضرار بالبلاد، وكل من استغل نفوذه للإثراء على حساب الشعب، وكل من ثبت اشتراكه فى إفساد الحياة السياسية. ومنذ ذلك التاريخ تحدد مَن هم «الشعب» ومَن هم «أعداء الشعب».
وظلت قاعدة استبعاد مِثل هذه العناصر قائمة فى كل التنظيمات السياسية التى تشكلت بعد هيئة التحرير (الاتحاد القومى والاتحاد الاشتراكى العربى)، وكذا فى الهيئة التشريعية (مجلس الأمة) حسب ما تفرضه ظروف التحول من فرز القوى أولًا بأول.

ولأن مصر بلد زراعى فى المقام لأول فقد اهتمت الجمهورية الجديدة بالزراعة، حيث بدأت أحوال الزراعة المصرية تتغير وانقلبت الأوضاع الاقتصادية- الاجتماعية فى الريف، فقد زادت مساحة الأراضى المنزرعة نحو مليونَى فدان نتيجة عمليات الاستصلاح، خصوصًا بعد إقامة السد العالى. كما أتاحت الجمعيات التعاونية الزراعية فرصة أوسع لصغار الفلاحين ومتوسطى الملاك للإفادة من الخدمات التعاونية بشكل أكبر، خصوصًا فى مجال تسويق الحاصلات الزراعية. كما حدث تغير ملحوظ فى خريطة المحاصيل الزراعية فزادت باستمرار مساحة المحاصيل النقدية والتجارية مثل الخضروات والفواكه والأعشاب الطبية والزهور وغيرها وتراجعت المحاصيل التقليدية.
وفيما يتعلق بعمال الورش والمصانع تقرر إنشاء صندوق للتأمين وآخر للادخار للعمال (31 أغسطس 1955) تحوَّل إلى مؤسسة للتأمين ضد الشيخوخة والوفاة والعجز وأمراض المهنة والبطالة والمرض بشكل عام. كما نظم القانون التعويض عن إصابة العمل (18ديسمبر 1958) ثم صدر قانون جديد للعمل (5 أبريل 1959).
ومن خلال المجلس الدائم لتنمية الإنتاج القومى (أنشئ فى 12 أكتوبر 1952)، بدأ الاهتمام بالمشروعات التى تتعلق بالتنمية زراعّيا وصناعيّا وتجاريّا. ومن خلال المجلس الدائم للخدمات العامة (أنشئ فى 17 أكتوبر 1953) تم وضع الخطط الرئيسية للتعليم والصحة والعمران وبمقتضاه تكونت الوحدات المجمعة فى الريف والأحياء الشعبية. وبدأ تشجيع البحث العلمى لتستند إليه سياسة الدولة، إذ تم إنشاء المعهد القومى للبحوث (1953) تحوَّل إلى المركز القومى (1955)، وأنشئت مؤسسة الطاقة الذرية عام 1960 نجحت فى 1961 فى إنشاء أول مفاعل نووى لإنتاج النظائر المشعة.
كما أنشئت عدة معاهد نوعية للبحث العلمى: معهد الصحراء، وعلوم البحار والمصايد، وبحوث البناء، والأرصاد. ومن نتائج هذه الدراسات كان مشروع الوادى الجديد الموازى للوادى الحالى، وذلك بإصلاح الأراضى البور الممتدة من منخفض القطارة غرب النيل إلى جنوبَى أسوان ومساحته عشرة ملايين فدان، وكذا مصانع الحديد والصلب بحلوان وسلسلة المصانع الحربية ومجمع الألومنيوم بأسيوط.
وبفضل تقييد الاستيراد وتخفيض رسوم التصدير على غالبية السلع وفتح أسواق فى بلاد مختلفة تَحسّن الميزان التجارى، وكان العجز فيه عام 1952 قد بلغ 72 مليون جنيه، انخفض فى 1953 إلى 37 مليون جنيه وإلى عشرين مليونًا وستمائة ألف جنيه فى عام 1954، ثم ارتفع عام 1955 إلى 41 مليونًا وثلاثمائة ألف جنيه بسبب زيادة استيراد أدوات الإنتاج كالعِدَد والآلات والأنوال والعَدّادات الكهربائية وأدوات البناء، ثم ارتفع فى عام 1956 إلى 43 مليونًا وثمانمائة ألف جنيه، ثم انخفض فى 1957 إلى أحد عشر مليونًا وهو أقل عجز منذ عام 1941.

تأميم القناة
كان تأميم قناة السويس (26 يوليو 1956) بداية قيام الدولة بكامل الدور الاقتصادى فى الاستثمار، حيث فرضت الحراسة على المؤسسات الإنجليزية والفرنسية وكان عددها 1500 مؤسسة من بنوك وشركات تأمين وبترول وتعدين فى أعقاب العدوان الثلاثى فى أكتوبر- نوفمبر 1956، وتأسست وزارة الصناعة لتوجيه شئون التصنيع واستغلال الثروة المعدنية. وأنشئ مجلس التخطيط الأعلى (13يناير 1957) ليتولى تحديد الأهداف الاقتصادية والاجتماعية للدولة وإقرار خطط التنمية فى مراحلها المختلفة، ومعه تم إنشاء المؤسسة الاقتصادية للإشراف على المؤسسات المؤمّمة. وفى اليوم التالى لإنشاء هذه المؤسسة تقرر تمصير البنوك (14يناير) وكان رأس مال هذه البنوك فى آخر ديسمبر 1956- مَثلًا- لا يزيد على 2٫5 مليون جنيه، ومع ذلك تتحكم فى نحو مائة مليون جنيه مصرى من جملة ودائع البنوك التجارية التى تزيد قليلًا على 195 مليون جنيه وتبلغ ودائع المصريين فيها من 70-100 مليون جنيه. ثم تلا ذلك تمصير شركات التأمين وكان عددها 135 شركة حسب إحصاء 1954 منها 123 شركة غير مصرية تملك عشرين مليون جنيه من مجموع أصول شركات التأمين وقدرها 38 مليونًا جنيه. كما تم تمصير الوكالات التجارية وقصر مزاولة أعمالها على المصريين أو الشركات المساهمة بحيث تكون أسهمها للمصريين. كما تقرر أن تكون اللغة العربية لغة جميع العقود والسجلات والمحاضر والمكاتبات وتغريم من يخالف ذلك من 10-200 جنيه (10فبراير 1957).
وكان لهذا الدور الاقتصادى للدولة نتائج ملحوظة، ففى تقرير لمنظمة العمل الدولية عام 1959 أثبت أن الدخل الفعلى للعامل المصرى ارتفع بنسبة %21، وفى عام 1960 احتلت مصر المرتبة الثالثة فى المؤتمر العلمى العالمى الذى نظمته الأمم المتحدة بالنسبة لعَدد الأبحاث العلمية التى تقدّم بها علماؤها ونوقشت فى المؤتمر.
ثم تنبهت الجمهورية الجديدة إلى أن تمصير رأس المال الأجنبى لم يقضِ على طبيعة الاستغلال الرأسمالى لكنه أدى إلى توسيع قاعدة الرأسماليين المصريين، وأولئك ظلوا يحجمون عن الاستثمار فى الصناعات الثقيلة المطلوبة للتنمية وظلوا على نهج الرأسمالية الأجنبية التى تبحث عن الربح السريع من خلال مشروعات الخدمات والإنتاج الخفيف، ومن ثم كانت قرارات تأميم جميع وسائل الإنتاج الكبيرة فى يوليو 1961 وإقامة القطاع العام للقيام بالمشروعات التى يتردد رأس المال الخاص فى إقامتها. وقد استوعب القطاع العام العمالة المتزايدة من خريجى الجامعات وحملة المؤهلات المتوسطة مما كان له أثره على الاستقرار الاجتماعى.
وتسجل الإحصاءات فى أبريل 1962، أى بعد نحو عشرة أشهر من التأميم، زيادة قدرها 9 ,2% فى إنتاج الشركات المؤممة. ويقرر ميثاق العمل الوطنى فى يوليو 1962 تحويل المجتمع الرأسمالى فى مصر إلى مجتمع اشتراكى خلال ثمانى سنوات، وفى ذلك قال عبدالناصر: «إن الميثاق لا يتضمن شروطًا متصلبة صارمة ولا يجب أن يتحول إلى عائق، بل هو فى أيدينا أداة لتحقيق التقدم الاجتماعى». وأعلن فى يوليو 1962 أن التعليم سيكون مجانًا فى جميع المراحل، وهذا يتماشى مع مبدأ تكافؤ الفرص أمام الجميع وكل إنسان بعد ذلك حسب قدرته الذهنية، ذلك أن التعليم فى النظام الرأسمالى لا يسمح فقط إلّا للأغنياء بمواصلة التعليم واكتساب الخبرات المعقدة.
وعربيّا كانت الجمهورية الجديدة برئاسة عبدالناصر قائدة الأمة العربية دون منازع على طريق التحرر والوحدة والكرامة بفضل قوة مصر وجهود أبنائها، حيث أعاد عبدالناصر الحيوية للأمة العربية وعمل على جمعها على كلمة سواء من خلال مؤتمرات القمة التى بدأت فى يناير 1964 أمام تهديد إسرائيل بتحويل مجرى نهر الأردن بعد أن أدرك عجز الجامعة العربية عن فعل شىء بسبب نصوص ميثاقها غير الحازمة، وإنشاء منظمة التحرير الفلسطينية وتبنّى حق الفلسطينيين فى إقامة دولتهم على الأرض المغتصبة.
وعالميّا أصبحت مصر بفضل مواقف عبدالناصر نموذجًا لدولة من دول العالم الثالث تنجح فى تحقيق استقلال حقيقى دون استقطاب لأحد طرفَى الصراع فى الحرب الباردة. ونجح فى أن يحدد سياسة مصر تجاه جميع الدول على أساس موقف كل منها من قضية تحرير فلسطين. ولهذا عندما أرغمت ألمانيا الغربية على دفع تعويضات لإسرائيل عن «المحرقة النازية» (الهولوكوست) قطع عبدالناصر علاقة مصر بألمانيا (مايو 1965) وتبعته فى هذا كل من السعودية والأردن واليمن والسودان وسوريا والجزائر.