الأحد 3 أغسطس 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
الحب و الجوع والحرية!

الحب و الجوع والحرية!

إنه الجوع يا سيدى..!



وقبل أن أتركك تفسر المعنى كما يحلو لك. دعنى أقل أنه ليس ما خطر لك فى البداية. فلو كنا فى عمل أدبى محترم لـتولستوى أو ماركيز فسيكون الجوع الذى أعنيه هو الجوع إلى المعنى. إلى الغرض. أما إذا كانت واحدة من روايات يوسف السباعى فإننا نتحدث عن الجوع المستمر إلى الحب والحرية.. وبالطبع لسنا ضمن أحداث أحد أفلام مصاصى الدماء مما يعنى – بالطبع – الجوع إلى الدماء ...

وإذا كنا …

كلا …

لن أثرثر أكثر من هذا قبل أن أخيب أملك بإعلانى أن هذا الجوع ليس إلا الجوع …

هل فهمت؟ …

إنه الجوع العادى …

الجوع الذى أعانى منه أنا وأنت والرجل الذى يستقل الحافلة والذى يسير فى الشارع والذى يجلس فى داره ... وبكلمات أكثر وضوحًا…

إنه الجوع إلى الطعام…

حسناً. اضحك كما شئت. كل من سمعوا هذا من قبل ضحكوا وسخروا وتهكموا وعلقوا وثرثروا عنى فى وجودى وفى غيابى …

لكنها الحقيقة!

رائع ما يخرج من تحت أيدى الطهاة!

مذهل ما تنتجه المطابخ ...!

وأنا مفتون بجميع الأنواع والأصناف. حقيقة لا أنكرها. ولذلك ألتقط الرائحة الشهية والطعم اللذيذ ولمحات الأطباق العابرة ونغمة تقليب أدوات المائدة فى هذه الأطباق ثم تختفى الحواس جميعاً ويتفجر الإحساس بها جميعًا افتتانًا بنعمة الله لملايين المخلوقات. فأتذوق واستمتع وأمتلئ وأتوجع وألعن وأرفض وأتألم وأسخط وأولول…

 

 

 

وعندما كانت معدتى تنفجر بمحتواها، كنت أقرر أننى لن أعود إلى هذه العادة ثانية. ولكن. كان هذا فى البداية فقط…

تعلمت بعد ذلك. أن أمتلئ ثم أهدأ قليلاً ثم أواصل المسيرة وكنت سعيدًا فى الواقع بهذا، وبأننى قد حددت هدفى فى الحياة. هدفى الذى أقسمت أن أكرس كل جهودى لتحقيقه!

والطعام بالنسبة لى هو معركة مستمرة، بينى وبين الجالسين معى على مائدة واحدة وحينئذ يتخذ مظهرًا من مظاهر المعركة العنيفة التى تحتاج إلى قدرات قتالية خاصة.

وهذا هو ما حدث بالضبط عندما دُعيت إلى دار صديق ازدادت معزته لدى عندما عرفت نوع الدعوة بالتحديد... كان وقت الغداء…

فامتلأت المائدة بالأطباق والصحون والصوانى والطعام المحمر والمشوى والمقلى وجميع أنواع المُقبّلات وفاتحات الشهية. فاتحات شهية؟ لماذا وضعوا فاتحات شهية؟. غريبة!..

حسناً …

دعانى إلى المائدة مرحِّبًا. وبعبارات مشجعة. ولم أكن بحاجة إلى أى تشجيع من أى نوع كما تعلم. عبارات على غرار: تفضل لقمة معنا. مد يدك يا رجل. لا تكن خجولاً هكذا. لا أحد غريب…

 لا أحد غريب؟

هتفت فى لوعة:

- «لا أحد غريب؟». ماذا تعنى بالضبط؟

أجاب مبتسمًا وهو يشير إلى مقعد:

-كل المدعوين من أصدقائنا ومعارفنا.

غمغمت فى حرارة:

-«مدعوّين؟!»

هل هناك «مدعوون» آخرون؟. إذن. سينقسم الموجود على المائدة على أكثر من واحد الذى هو أنا …

جلست متبرماً:

-«يا مُسهِّل.»

أرجوك. لا تبتعد عنى. فإننى بحاجة إليك الآن. خاصة عندما تبدأ الحرب. صدقنى يا سيدي!. إننى لا أبالغ ... وحتى لا تظن أننى أقول كلامًا على عواهنه. يمكنك أن تأتى بنفسك لترى بعد التحيات والسلام. إلخ …

وبعد أن جلس كل فى مكانه …

وبعد أن انطلقت صفارة البدء. أعنى عندما أشار صاحب الدار إلى الوليمة داعيًا فورًا، مددت يدى إلى طبق اللحم الكبير المنصوب فى وسط المائدة. وفى اللحظة ذاتها مد الجالس أمامى يديه إلى ذات الطبق. وقبض كلانا فى الوقت نفسه على الطبق. جذبته نحوى،  فزمجر بشراسة وجذبه إليه بدوره؛ فعدت أجذبه إليَّ ثانية. هذا وكانت قطع اللحم تخرُج من الطبق وتتقافز على المائدة فيلتقطها البعض ممن يصيدون فى الماء العكر. واحتدم الجذب والشد بيننا حتى كانت نهاية ذلك الصراع الدموى عندما لمحت ثلاث دجاجات تلمع فى صحن كبير. برزت فجأة كأنها ظهرت من العدم وهنا أرخيت قبضتى عن الطبق، فصار منافسى هو الوحيد الذى يجذب ناحيته فاندفع الطبق بقوة الجذب إلى صدره ووجهه و.. تساقط اللحم فى حجره ورأيت الدخان يتصاعد من رأسه إذ تلفت ملابسه تمامًا…

وبمجرد أن تركت طبق اللحم والتفت إلى صحن الدجاجات حتى ضاع. ماذا؟ متى ظهر ومتى اختفى؟…

شمرت ذراعىّ وزمجرت كالمجنون وقبضت على شوكتى كالمسعور ودفعتها لتنغرز فى قطعة الكفتة الواحدة التى تبقت فى الطبق الذى نسفه الآخرون. وفى نفس هذه القطعة انغرزت شوكة صاحب الدار. ولأنه مضيفنا فقد تركتها له حتى لا يحطم أنفى. رددت شوكتى وتبادلنا نظرات الاعتذار. ولأنه تخلى عنها تاركاً الفرصة سانحة أمامى... بسرعة مددت شوكى. وفى عين الوقت مد هو شوكته من جديد لتصيب قطعة الكفتة المسكينة. وهنا دفعت شوكته بعيدًا مستخدمًا شوكتى وبيدى الأخرى التقطتها بين أصابعى ثم إلى فمى. هكذا تؤخذ الدنيا يا سادة!

هذا ولا تنس مبارزة الملاعق فى طبق الأرز الطويل جدًا، إذ كان كل منا يمد ملعقته ليغرف أكبر كم ممكن. فكنت أمد ملعقتى فى الوقت الذى يمد فيه أحد الضيوف ملعقته هو الآخر فتصطدم الملعقتان فى الطبق. وقد يمد الجالس أمامنا ملعقته هو الآخر. ثم رابع. وخامس. وتنتهى معركة الملاعق - بالطبع - بأن يرفع كل منا ملعقته إلى فمه وهى خاوية تماماً!

 

 

 

وننتظر هنيهة…

حتى يظن كل منا أن بقية الأعداء قد نسوا أمر هذا الطبق فيمد ملعقته كى يظفر بما فشل فى الحصول عليه فى الغارة الأولى …

ويكون الآخرون قد فكروا فى ذات الشىء فيمدوا ملاعقهم أيضًا. فتتكرر المأساة! وهنا تبدأ المصارعة؛ فيرتد ذراع أحدنا فجأة، فيصطدم كوعه بوجه جاره، فتندفع ملعقة الأخير فى أعماق حلقه. أو تصطدم الملعقة بأحد أكواب الماء على المائدة فتراق بين الأطباق وعلى الملابس. و…

يا إلهى! …

لقد ظهرت الدجاجات مرة أخرى. تُرى هل نقص منها أى شىء؟. أعنى هل تبقى منها أى شيء؟ لا يهم. المهم أننى ومضيفى كنا نتجاذب ذات الدجاجة فوق طبق الشوربة الذى يتصاعد منه البخار الكثيف والرائحة الشهية. أنا اجذب فخذاً وهو يجذب الآخر. ثم …

بووووووووووووووووووش .…

أخذ هو فخذاً وأخذت أنا الآخر وسقطت الدجاجة فى طبق الشوربة فتناثر الحساء الساخن على الأيدى والوجوه وبالطبع لم يشعر أحد بشيء. ولكن أحد المراقبين انتهز هذه الفرصة النادرة فمد ملعقتين داخل الشوربة ليصيد الدجاجة، فأمسكت شوكتى ووخزته بها فى كفه، صرخ وتركها. فلم أنته منها إلا عظامًا تتساقط على المائدة و.. و.. و.

وامتلأت المعدة وتكدست الأمعاء حتى لأشعر بالطعام يقف فى مجرى المريء. لهذا تجدنى لا أستطيع أن أتحدث إليك أكثر من هذا لأن التنفس قد صار عسيرًا بعض الشيء. ولكن أعدك بأن أقص عليك المزيد عندما تنتهى عملية الهضم! ..

وهكذا انتهت الوليمة وكل منا يتحسس شعره وملابسه وجلده لزجاً بالسمن ومبللاً بالحساء وملوثاً ببقايا الأرز واللحم والخضروات و.. و.

وأترككم الآن إذ أننى يجب أن أذهب فى زيارة إلى صديق كريم تلبية لرغبته وإلحاحه بالطبع. .. وأرجوكم، فليكن ما قلته لكم سرًا بيننا، ولا يذكرن أحدكم أمامه موضوع الوليمة هذه وإلا. وإلا رفض أن يقدم لى وجبة الغداء.