الإثنين 22 سبتمبر 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

حكايات صانع بهجة «أيام الكوميكس البريئة»

الرائق صاحب الأفكار المدهشة التى لا تنتهى. إنه (جوسيني)..(رينيه جوسيني)، أحد أبرع كتّاب سيناريوهات القصص المصورة على الإطلاق، وأحد هؤلاء الذين وضعوا أساسيات الإبداع، كدافينشى.. خاض حربًا خاصة لتطوير أدواته وأساليب كتابة القصة المصورة. بداية السياحة الجمالية فى حياته كانت بسبب انتقاله المستمر بين باريس وبوينوس أيرس لظروف عمل والده كمهندس فى الأرجنتين. ولد (رينيه جوسينى) عام 1926 فى باريس، طفل انطوائى لا يحب الصخب ولا يفلح فى أى لعبة رياضية، كلما جرّب رياضة ما كما يفعل أقرانه، باءت المحاولة بالفشل. لكنه نجح فى أن يقرأ كل ما يقع تحت يده، وعشق بشكل خاص عوالم سوبرمان وشخصيات ديزنى وطرزان وزيج وبوس، واكتشف فى نفسه تلك الرغبة العظيمة فى إضحاك الآخرين، حتى لو كان ذلك على حساب نفسه..



 

وحتى لو تلاعب بملامح وجهه مرارًا ليرسم البسمة على الوجوه، فما كانت تكتمل سعادته إلا عندما يشعر بالبهجة تتدفق من الآخرين، وكان رفاقه فى الأرجنتين يتجمعون حوله فى المدرسة ليضع لهم القصص المضحكة المثيرة. هكذا كان من الطبيعى أن يدرس الآداب والفنون الجميلة، وحصل على شهادته عام 1943، لكن القدر ترصّده فتوفى والده فى نفس التوقيت مما اضطره إلى إنهاء كل أحلامه الدراسية الجديدة، إذ كان لابد له من أن يعمل.

تعلم مع نفسه أساليب جديدة للرسم حتى ينتقل إلى وظيفة تناسب موهبته، فأجاد رسم شخصيات ديزنى المختلفة وذهب باسكتشاته إلى شركة كبيرة فى مجال الدعايا والإعلان، وكان أول عمل له هو تصميم ملصق دعائى يوضع على زجاجات زيت الزيتون، رسم زخارف مبتكرة من أغصان الزيتون، فانقطع عيشه فى الحال، لأن الزبائن كانوا يفضلون رسوم النساء العاريات! ضاقت به عيشته فى الأرجنتين؛ فحمل حقائبه إلى الولايات المتحدة، والأحلام تعصف برأسه للعمل فى مؤسسة والت ديزنى العملاق الذى كان يجهل كل شيء عنه. عاش وحيدًا كالمتشردين فى نيويورك وبلغ التاسعة عشرة من عمره. وكل ما يعرفه هو القليل من الإنجليزية وخطوط معقولة فى فن الرسم. وزاد الحال سوءًا عندما التحق بالخدمة الإجبارية فى الجيش. كان يمقت الجو الأمريكى، عاش فى ذكريات طفولته السعيدة فى (لا بامبا)، الطبيعة الساحرة وركوب الخيل فى الخلاء، والإبحار مع أبناء عمه على شواطيء فرنسا، لم يكن يرغب فى أن يكون أمريكيًا، كان نظام الحياة الأمريكية يثير الهلع فى نفسه، يجب أن يعمل كالثور نظير قروش قليلة، وأن يُبدِّل مسكنه وسيارته وجيرانه كل فترة. ظل يحلم بالعودة إلى فرنسا، وكانت زياراته القصيرة لها تؤجج هذا الشوق فى نفسه وتُكثِّف من ألوان صورتها الرومانسية فى خياله، حتى عندما عاد إليها عام 1946 كانت فاجعته الكبرى عندما رأى الدمار الذى ألحقته الحرب العالمية الثانية ببلده الحبيب.

 

 

 

لعل فى هذا كان الخير له! عندما عاد إلى أمريكا حدثت معه صدفة عجيبة، إذ التقى بأحد أصدقاء والده الذى اصطحبه إلى ستوديو يعمل به كل من (ويل إيلدر) و(هارفرى كورتزمان) و(جاك ديفيس).. هى المجموعة التى ستبتكر فيما بعد الحلم الكوميدى الممتع المجنون: مجلة (ماد). وكالعادة يثبت الفنان الحقيقى أنه إنسان حقيقى. تلقّوه بالترحاب وساعدوه فى رسوم أغلفة بعض كتب الأطفال، وعندما استقر به المقام نوعًا بدأ ينظر إلى الحلم الأمريكى بعين الناقد الصامت، هذه النظرة الساخرة التى خلقت فيما بعد الشخصية الأمريكية الظريفة التى لا يمكن أن تكون قد مُحيت من خيالك.. لاكى لوك! لقد كتب أفضل قصص لاكى لوك مع (موريس) وأفضل صفحات (جيرى سبرنج) مع (جيجيه)، كما أن الأول قدّمه إلى مدير إحدى الوكالات الصحفية البلجيكية الذى طلب منه أن يعرض عليه بعض أعماله فيما بعد، بعدها يذهب إلى (جوسيني) ومعه عدة صفحات من (مغامرات ديك ديكس). كانت هذه هى الوكالة الشهيرة (وورد بريس)، وهناك التقى بكاتب سيناريو الكومكس الأشهر (جان ميشيل شارلييه) الذى سيؤسس معه فيما بعد مجلة القصص المصورة الجميلة (بيلوت) بعد أن يرى شارلييه فى هذا الوافد الفرنسى جوهرة من الأفكار المتجددة ووجهات النظر غير المسبوقة فى مجال السيناريو. فلم يترك هذا الموهوب المدهش يفلت من بين يديه. 

 

لكن أين (جوسيني) بينما هذه المداولات تتم فى الوكالة؟ لقد مر عام كامل وأحواله تسوء ويعيش على بعض نقود اقترضها من معارف لديه، حتى بلغ منه اليأس مبلغه لدرجة أنه فكر فى أن يترك عبث الرسم والقصص ويبحث لنفسه عن عمل جيد يقتات منه. هنا وصلته برقية من (وورد بريس): «احضر فورًا، شرائح رسوم (ديك ديكس) مقبولة.» وظل يقدم لهم لعدة سنوات قصصه المصورة التى يكتبها ويرسمها بنفسه، وأولها مغامرات ديك ديكس، المخبر الأمريكى، ثم شخصية الكابتن بيبوبو، ولاحظ القائمون على تحرير هذه المجلات أن حبكة السيناريو عنده أقوى من خطوط الرسم نفسها. فكان أن أرسلته الوكالة إلى مكتبها الجديد فى باريس، وكانت لديهم فى هذا الوقت فكرة غير مختمرة عن نشر صحيفة باللغة الإنجليزية فى نيويورك، وكان جوسينى هو الوحيد الذى يجيد الإنجليزية بينهم، فكان نصيبه أن يشد الرحال من جديد إلى أمريكا. وكان من نصيب الجريدة أن تفشل، لكن (جوسيني) قد اكتسب خبرة أكبر، وفكر فى شخصية جديدة تسمى (بيستولين) وحلم ببطل جهنمى يقضى على الأشرار فى لمح البصر دون أن يمسه مكروه، وكان السائد هو أن يكون أبطال الكومكس من الرجال وقتها، قبل أن تسود فى سنوات بعيدة لاحقًا فكرة البطلة واستخدام عنصر الإغراء النسائى. فيما بعد ستطلق الولايات المتحدة سلاسل لا نهائية من الكوميكس الإباحى وسوف يتخصص أكثر من قائم على المانجا اليابانى فى القصص المصورة الفاحشة (هينتاي).

 

أما فى أيام جوسينى البريئة فكانت تحكم الكومكس الأوروبى قواعد شديدة الصرامة، حتى أن المجلات كانت تُعيِّن بعض الموظفين، لا يتقاضون أجورهم إلا للرقابة على ما يخرجه الكاتب والرسام قبل أن يذهب إلى المطبعة، وعليهم التأكد من طول ملابس الفتيات، والكلمات الخارجة، ونسبة العنف والدم فى القصص، بالرغم من أنها لم تكن مجلات أطفال لكن الشعور بالمسئولية كان عاليًا، وقال (جوسينى) يومًا: «لم أعمل بشكل خاص للأطفال.. لا.. وكذلك لم أعمل بشكل خاص للكبار. أنا أعمل لنفسي! هناك بعض الأعمال التى يمكن توجيهها لنوعيات محددة من الجمهور ولكنى لا أجد الكومكس أحد هذه الأعمال، خاصة الكوميدى منها، وبالرغم من أننا يتم تصنيفنا على أننا نكتب للأطفال ولكن الحقيقة ليست كذلك!» هذه عبارة ذهبية نتعلم منها الكثير، ونعرف منها لماذا نحب قراءة ميكى حتى الآن! 

فى ظل هذه الأفكار تولى (جوسيني) مسئولية كتابة سيناريوهات سلسلة لاكى لوك على عاتقه، ذلك أن الفنان (موريس) كان يُفضِّل الرسم على الكتابة، لم يكن يحب أن يُرهق رأسه فى البحث عن الأفكار التى كانت ترد على ذهن (جوسيني) طازجة دون جهد، فيضعها على الورق فى الحال ويُلقى بها بين يدى (موريس) لتعمل ريشته على خلق الجو الأمثل لها فى الكادرات، وكان (موريس) قد بدأ فى رسم السلسلة فى مجلة (سبيرو) منذ 1946، متأثرًا بخطوط والت ديزنى، وبعد تعاونه مع جوسينى الذى قدَّم ملاحظاته الفنية المهمة، أخذت السلسلة شكلها الرئيسى المعروف. وكانت ذات القوانين الأخلاقية التى تحكمهما، فحبل المشنقة يتم حذفه، وتغطية سيقان الراقصات فى الصالون، ورغم تغيُّر هذه القواعد فيما بعد، لكن ظلت سلسلة (لاكى لوك) محافظة على ذات السمات النظيفة فالفارس نبيل لا يريق الدم ولا يقتل ولا يمارس الرذائل أبدًا!