يوم فى رحاب أصحاب «المقام»

قام بالزيارة والتصوير: أحمـد رزق
كانت الرحلة محددًا لها قبل عدة أسابيع ولكن لظروف خاصة بالمدعوين لها مرة، وأخرى لظروف خاصة بأصحاب الدعوة تأجلت الرحلة عدة مرات، حتى كان أغلب الظن أنها لن تتم، وما بدا بعد ذلك أن التوقيت كان محسوبًا.. حيث زاد الشوق لأصحاب المقامات والإذن للرؤية توقيته قد آن..
سبقنا الشوق لملاقاة العارفين فكانت الوجهة إلى أقصى الشمال وتحديدًا ميدان المساجد بحى بحرى بالإسكندرية وتحديدًا حى الشاطبى غرب المدينة على بعد بضع عشرات الأمتار من شاطئ البحر.
يضم الميدان عدة مساجد تضم مقامات أولياء الله العارفين وهى واحدة من أهم البقع المباركة بمصر. لعل أهم تلك المقامات مقام «أبوالعباس المرسى» ومسجد ومقام «ياقوت العرش» الذى يضم مسجده أيضا مقام وضريح تلميذه «مكين الدين الأسمر»، ومقام مداح الرسول الأشهر «الإمام البوصيري» والملاصق مسجده لمسجدى الشيخ أبوالعباس ومسجد وضريح «سيدى محمد نصر الدين» قاضى قضاة مصر فى القرن الثامن الهجرى.
ويوجد بنفس الميدان عدة قباب أهمها قبة «ست المندرة» عمة سيدى إبراهيم الدسوقى التى يحمل اسمها أحد أحياء مدينة الإسكندرية حى «المندرة» وكذلك قبة وضريح «الست فاطمة» أم سيدى «إبراهيم الدسوقى».
من أغرب المقامات بميدان المساجد مقامات وأضرحة الـ«14 شيخ» وهو مقام يضم مقامات أربعة عشر اختلفت فيهم الآراء، فالبعض يذكر أنهم أحفاد «على زين العابدين» والبعض يرى أنهم علماء من تلاميذ المرسى أبوالعباس.
وبسؤالنا لإمام مسجد البوصيرى أجاب بأنه لا يعلم عن تاريخهم شيئا، الأغرب أن اسم «محمد» يجمع بين أسمائهم جميعًا إلا واحدًا يسمى «يوسف الجعرانى» والبعض يذكر المقام بضريح الـ «14 محمد».
والمبنى على شكل مستطيل فى أسفل أضلعه الثلاثة الأضرحة وشبابيك تظهرها وباب الضريح يعلوه آية سورة الكهف «إنهم فتية آمنوا بربهم فزدناهم هدي» وفى نفس السورة ذكر تعالى عنهم بأنه لا يعلم عن أمرهم إلا قليلاً ولعلها مفارقة غير مقصودة تربط بين أهل الكهف والشيوخ الـ«14».
قبل بداية الزيارات نتذكر مع القارئ أن الصوفيين أصحاب مذهب إسلامى وحقيقته أنه أحد مراتب الدين الثلاثة «الإسلام والإيمان والإحسان» والذى اهتم بتحقيق مقام الإحسان ومقام تربية النفس والقلب وتطهيرهما من الذنوب.. وأن المذهب الصوفى - بمعنى أدق لدى المتصوفة مقام وليس مذهب وهم من أهل السنة وكما قال الإمام الشبلى أحد كبار المتصوفة بأن من لم يمر القرآن والسنة على قلبه فقد رانت على قلبه الذنوب.
«أبوالعباس المرسى»
يقع مسجد الإمام «أبوالعباس المرسى» فى قلب ميدان المساجد وصاحبه أحد علماء الأندلس ونسب لمدينته «مرسيه» بالأندلس التى رحل عنها ليتعلم على يد شيخه الأشهر «أبوالحسن الشاذلى» مؤسس الطريقة الشاذلية والذى أخذ العهد عنه ليصبح بعدها أول شيخ للطريقة بعد مؤسسها وعرف عنه أنه من أهل الكرامات والولاية ويعتز كل مريديه بالطريقة وصاحبه والذى لـ«أبوالعباس المرسى» حادث شهير مع شيخه والذى صاحبه فى رحلة الحج والتى لم تكتمل لوفاة «أبوالحسن الشاذلى» خلالها والذى أوصى تلميذه بإحضار الكفن ولما سأله أبوالعباس عن السبب فقال له مأثورته الشهيرة:
«فى حميثرة سوف ترى» وبالفعل توفى الشيخ بمنطقة حميثرة بوادى عيذاب القريب من مدينة مرسى علم ليكفنه تلميذه مع مرور شخص غريب ملثم وبعد دفن الشيخ يكشف أبوالعباس عن لثام الغريب ليرى وجه «أبوالحسن الشاذلى» نفسه.
مسجد «أبوالعباس المرسى» من أكبر مساجد الميدان من حيث المساحة يقصده الكثير من خارج مصر وتنتشر «باصات» السياحة حول ساحاته كما يقصده بعض أهل الحى.. ويوجد شاهد للضريح بالمسجد.. والضريح والمقام نفسه فى بناء منفصل خلف المسجد يصل إليه الزائرون عبر سوق الجمرك ويضم ضريح الشيخ وابنيه محمد وأحمد.
ونذكر بالضرورة أن الإمام الأكبر «عبدالحليم محمود» شيخ الجامع الأزهر الأسبق أحد أقطاب الطريقة الشاذلية وله مجهود كبير فى تدوين آثار مؤسس الطريقة «أبوالحسن الشاذلى» حيث كتب عنه وعن الطريقة عدة كتب.. وهو أيضا قد بشر الرئيس الراحل أنور السادات بالنصر قبل بداية حرب أكتوبر المجيدة.
«ياقوت العرش»

المسجد من أحب الأماكن لأهل الحى وقاصديه وكما يقول مرتادوه بأن ريحا طيبة تسكن المقام وما حوله، صاحب المقام وهو «أبو الدر ياقوت الحبشى القرشى» والشهير بالعرشى والذى ولد بالحبشة ولمجيئه إلى الإسكندرية قصة، فبعد أن تم بيعه بالحبشة لأحد مريدى الشيخ «أبوالعباس المرسي» بغرض إهدائه له إلا أن ياقوت العرش أصيب بمرض جلدى فباعه التاجر واشترى عبدًا آخر ولما رآه أبوالعباس قال للتاجر:
لا نريد هذا العبد إنما نريد الذى بعته فلو كنت تعرف منزلته عند الله ما كنت بعته.
فجاء التاجر بياقوت العرش فرحب به أبوالعباس المرسى وجعله مؤذن جماعة الفقراء ولقب بالعرشى وقيل لأنه يسمع آذان حملة العرش.
وأحبه الشيخ أبوالعباس وزوجه ابنته السيدة «بهيجة» بعد وفاة شيخه تولى الخلافة على طريقة الشاذلى. وكان مقبول الشفاعة عند أهل الطريقة فيذكر أن السيد «أحمد البدوي» قبل شفاعته من الشيخ شمس الدين اللبان، والذى أنكره فسلبه «البدوي» علمه وحاله وطلب من جميع الأولياء الشفاعة فلم تقبل شفاعتهم وقيل تشفع الشيخ ياقوت العرش فيه فقبلها الشيخ.
يذكر عن ياقوت العرش شفاعته فى الحيوانات، والطيور ويسمع شكواهم.
جاءه مرة يمامة وجلست على كتفه وهو فى حلقة الفقراء وحدثته وقال لها نرسل معكى أحد الفقراء فرفضت وقالت ما يكفينى إلا أنت فسافر إلى القاهرة على بغلته قاصدًا مسجد عمرو بن العاص ونادى المؤذن وقال له أن اليمامة أبلغته بأنه يذبح أبناءها كلما أفرخت فقال المؤذن: لقد صدقت فقال له لا تعد فقال له المؤذن: لقد تبت إلى الله.
أخذ المعلم عن «ياقوت العرش» الكثير من الصوفيين أشهرهم «بن عطاء الله السكندرى» والتقاه الرحالة المغربى الأشهر «ابن بطوطة» الذى سمع منه أخبار وأحوال الشيخ «أبوالحسن الشاذلى».
فى نفس المسجد وقبالة مقام «ياقوت العرش» ضريح القطب الربانى «مكين الدين الأسمر» وهو أبوعبدالله بن منصور الإسكندرانى الشاذلي. ولد بالإسكندرية وحفظ القرآن وارتاد مجلسه أكبر علماء عصره، صاحب الشيخ «أبوالحسن الشاذلي» وأخذ منه العلم وصاحبه فى معركة المنصورة سنة 648هـ وقال عنه الشاذلى: بينكم رجل أسمر اللون أبيض القلب، وما سلكت غيبا من غيوب الله تعالى إلا وعمامته تحت قدمى.
أملى «مكين الدين» أحوال الحسن الشاذلى على بن عطاء الله السكندرى وسجلها فى كتابه «لطائف المنن فى مناقب الشيخين».
من الكرامات المعروفة عن «مكين الدين الأسمر» رؤيته ليلة القدر أكثر من مرة ونزول الملائكة بأطباق من نور، وإمامته الصلاة أمام النبى دانيال فى مسجده بالإسكندرية.
مسجد البوصيرى
يقع مسجد الإمام «البوصيرى» فى مواجهة البحر وينقسم إلى ثلاثة أجزاء، الغربى منه ميضة المسجد وتتوسطة مقام الإمام والشرقى منه المسجد نفسه.

صاحب المقام هو «شرف الدين أبوعبدالله الصنهاجى» المعروف باسم «الإمام البوصيري» المولود بقرية «بوصير» بمحافظة بنى سويف فى صعيد مصر وإليها يرجع لقبه وأحد فحول الشعر ويحتل منزلة عالية بين أعلام التصوف والشعراء، حفظ القرآن فى صغره وعين مشرفا على الجبايات بالشرقية.
ويروى أنه رأى من أخلاق موظفى الجباية ما لا يناسب أخلاقه فترك الوظيفة ولما سمع عن أبوالعباس المرسى رحل إلى الإسكندرية وصاحبه وأخذ عنه العلم وأصبح متصوفًا مادحًا لحضرة النبى «صلى الله عليه وسلم» وأجاد فى ذلك وظهرت براعته فى قصيدته «بردة المديح» والتى أبدعها خلال مرضه -أصيب بالشلل النصفى- وحين أتمها رأى فى منامه رسول الله «صلى الله عليه وسلم» يمسح على جسمه بيده ويلقى عليه بردة.
وقد عوفى من المرض ويقال إن الرسول صلى الله عليه وسلم أملى عليه فى المنام شطر البيت الذى يقول فيه البوصيرى: فمبلغ العلم فيه أنه بشر أكمل الرسول: «وأنه خير خلق الله كلهم».
قصيدة «بردة المديح» تحيط جميع جوانب المسجد وكتبت بخط الثلث وعرفت بالكواكب الدرية فى مديح خير البرية ويُقال إن لها خيرًا كثيرًا فى طلب الاستشفاء.

كانت الزيارة سريعة شملت سير بعض العارفين وأصحاب المقامات والتى شهد لها البعض وأنكرها آخرون.. نقلنا صورة لها دون تحيز أو رفض، ولا ننكر أن دعوة الزيارة كان لها وقع الهوى فى النفس.. وغادرنا الإسكندرية مع دعوة من أصحاب المقامات العالية بتكرار الزيارة.