الأحد 29 يونيو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

حواديت قصر النيل

عندما شيّد محمد على باشا، والى مصر لابنته «الأميرة نازلى» قصرًا بوسط القاهرة، اختار المكان الذى سيحمل فيما بعد اسم «قصر النيل».



وكان يدرك مدى حب ابنته وعشقها لرؤية منظر النيل، ومن هنا جاءت تسمية «قصر النيل» الذى أطلق الاسم على المنطقة بأكملها. 

اهتم محمد على باشا بتشييد «قصر النيل» على أعلى مستوى، فكان مِثالًا للعمارة الرومية، فاستقدم متخصصين فيها، وكان أول من أدخل هذه العمارة فميّزت شكل القصور المَلكية التى شُيدت فى عصره. 

لكن الوقت لم يُتح للقصر الفخيم الفرصة كى يبقى كائنًا فى مكانه، فعند تولى «محمد سعيد باشا» مقاليد الحُكم بعد مقتل الوالى «عباس حلمى الأول» عمل على شراء «قصر النيل» من مالكته «الأميرة نازلى»، وقام بهدمه وتحويل المكان إلى ثكنات عسكرية لإقامة الجنود وأطلق عليه «قشلاق قصر النيل».

قطار التطوير

بَعد فترة انطلق قطار التعمير والتنمية لمنطقة قصر النيل كاملة على يد «إبراهيم باشا» ابن محمد على، فتطورت المسافة من كوبرى أبو العلا شمالًا حتى بَعد كوبرى قصر النيل جنوبًا، وجرى العمل على تنمية المنطقة كاملة كجزء من تجميل الشاطئ الشرقى للنيل، وكانت تلك هى النواة التى بدأ منها تطوير شامل للقاهرة المحروسة. 

ومر الوقت حتى تولى الخديو «إسماعيل» الحُكم فشهدت منطقة وشارع قصر النيل فى عهده تنمية من نوع جديد تنطق بها أبنية قصر النيل إلى اليوم.

بدا إسماعيل متأثرًا بالعمارة الغربية التى رآها وعايشها أثناء دراسته فى أوروبا، وكم كان متشوقًا إلى نقل هذا النموذج فى العمارة إلى مصر، والقاهرة على وجه التحديد، حتى تصبح كما تمناها «عاصمة الشرق». 

وبدأت عملية إعادة تنظيم منطقة قصر النيل بشق الشوارع الواسعة وإقامة الميادين والمبانى، وتحدّث كبير مهندسى مصر وقتها على مبارك تفصيلًا عن هذه الأمور فى الأجزاء الأولى من «الخطط التوفيقية»، وهو الشارع الممتد الآن من ميدان التحرير عند المتحف المصرى حتى شارع الجمهورية مرورًا بميدان «طلعت حرب». 

تعمير المنطقة بدأ من شاطئ قصر النيل عند ثكنات الجنود حتى باب اللوق، فقام على باشا مبارك باختيار 617 فدانًا بالمنطقة، وأعاد تخطيطها، فكانت الشوارع والمتفرعات منها والتقاطعات عمودية، ورُصفت الشوارع «بالحجر الدقشوم» وخصصت مساحات للأرصفة وأعمدة الإنارة ووصلات المياه، حتى بلغ طول شارع قصر النيل نحو 1250 مترًا. 

عقب الانتهاء من التطوير، وبهدف الحفاظ على ما تم من إنجازات أمر الخديو «إسماعيل» ألّا تقل تكلفة أى بناية عن مبلغ 2000 جنيه حتى تصبح أبنية عصرية كما ينبغى، وكان هذا شرطًا أساسيًّا لمن منحهم الخديو الأراضى للبناء. 

وبهدف استكمال ما تم من تطوير رأى «إسماعيل» ضرورة إنشاء كوبرى للوصول إلى الجهة المقابلة من النيل «الغربية» ليربط بين الاتجاهين ناحية ميدان التحرير حاليًا ومنطقة الجزيرة، حيث كان المصريون يَعبرون على المراكب، فكلف شركة فرنسية بإنشاء كوبرى معدنى بتكلفة بلغت 108 آلاف جنيه، وتمت إقامته عام 1872، وسُمى بكوبرى قصر النيل نسبة إلى قصر «نازلى هانم» الذى شُيد من قبل بالمنطقة، فكان الأول من نوعه على النيل من بدايته فى المنبع حتى المصب، وبلغ طوله 406 أمتار، واستمر العمل به حتى أبريل 1931، حيث تقرر هدم الكوبرى القديم وإقامة آخر جديد.

الأسود الأربعة

كلّف الخديو إسماعيل المهندس الفرنسى «هنرى ألفريد جاكمار» بإعداد وتصميم أربعة أسود مصنوعة من البرونز بشكلها الحالى، وبالفعل أنجزها «جاكمار» فى فرنسا ونُقلت إلى مصر عبر الإسكندرية ومنها إلى القاهرة حتى موقعها بداخل كوبرى قصر النيل. 

وفى منتصف عام 1933 افتتح الملك فؤاد الكوبرى الجديد-القائم حاليًا- الذى حل محل كوبرى «قصر النيل» القديم وأطلق عليه اسم «الخديو إسماعيل» تقديرًا لجهوده التى حققها، ونفذته شركة إنجليزية بتكلفة 308250 جنيهًا و250 مليمًا، وبلغ طوله 383 مترًا وعشرين سنتيمترًا وعرضه 20 مترًا.

وبعد الانتهاء من تنفيذه تم تركيب الأسود الأربعة التى كانت على مداخل الكوبرى القديم من الاتجاهين، إلّا أن هذه المرّة على ارتفاع منخفض، حيث شُيّد الكوبرى على صناديق حديدية محملة بالخرسانة المسلحة ودعامة من الخرسانة العادية المكسوة بالجرانيت، كما بلغ وزنه بعد انتهاء الأعمال به 3360 طنّا، وهو ما يوازى ضعف وزن نظيره القديم. 

وعن كوبرى قصر النيل القديم فكان كل من يعبره يدفع رسومًا، للفرد 100 بارة «والبارة هى إحدى العملات النقدية العثمانية المعروفة فى هذا الوقت»، ويُعفَى الأطفال حتى سن 6 سنوات. 

 

 

 

أمّا على الدواب فيُسدِّد عن الجَمَل المُحَمَّل قرشين والفارغ قرشًا واحدًا والخيول والبغال المُحملة قرشًا و15 بارة، وكذلك تُدفَع رسوم على العربات والعربات الكارو، كما تم فرض رسوم عبور على النعام والغزلان وغيرها من الدواب المختلفة. 

وتم تحديد هذه الرسوم بناءً على مرسوم من الخديو صادر فى 27 فبراير 1827 لمحافظ القاهرة وتخصص لصيانة واحتياجات الكوبرى.

 وشهد شارع قصر النيل أحداثًا تاريخية أثرت فى تاريخ مصر منذ إنشائه فى عام 1874، وبعد هدم «سعيد باشا» لسراى نازلى هانم «قصر النيل» وتحويل المكان إلى ثكنات عسكرية للجنود استمر الحال, كما هو لفترة حتى اندلاع الثورة العرابية ومظاهراتها التى كانت قريبة من مقر الحُكم فى قصر «عابدين» ومراكز صُنع القرار والنظارات المختلفة «الوزارات» ومجلس شورى القوانين والقصور فى مناطق جاردن سيتى ولاظوغلى والجزيرة. 

وبقيت ثكنات قصر النيل شاهدة على تاريخ الاحتلال البريطانى للقاهرة بعد فشل الثورة العرابية، واستمر هذا الوضع حتى رفع الملك فاروق علم مصر فوق الثكنات من جديد مرتديًا بدلته العسكرية ورافقه العديد من كبار الشخصيات السياسية وقتها، وفى مقدمتهم محمود فهمى النقراشى رئيس الوزراء، ومن جديد عاد الجنود إلى ثكناتهم وبقى الوضع على ما هو عليه حتى تم نقلها إلى منطقة العباسية فى المعسكرات نفسها التى تركها الإنجليز. 

نشاط تجارى 

 تم هدم ثكنات قصر النيل، وتم تشييد عدة مبانٍ على الأرض نفسها، ومنها ما هو موجود حتى اليوم مثل مبنى جامعة الدول العربية وفندق تابع لسلسلة عالمية شهيرة وكان هناك مبنى الاتحاد القومى الذى تحوّل فيما بعد إلى مقر الاتحاد الاشتراكى ثم مقر للحزب الوطنى قبل هدمه.

ووضعت هذه التطورات نقطة انطلاق جديدة لشارع قصر النيل ليصبح مركزًا تجاريّا على أحدث طراز، فتم رصفه بالأسفلت من بدايته من ناحية المتحف المصرى حتى تقاطعه مع شارع إبراهيم باشا «الجمهورية حاليًا» عند جامع «الكيخيا».

ونظرًا لأهميته حرص كبار التجار على التواجد به، كما اصطفت به محال شهيرة فى ذلك الوقت، منها صيدناوى وعدس وبنزايون إلى جانب أسماء تجارية أخرى معروفة، منها شركة بيع المصنوعات المصرية. 

ظل شارع قصر النيل يُجسد حركة التطوّر التى تشهدها القاهرة عبر الأزمنة المتعاقبة، فجاءت حفلات كوكب الشرق «أم كلثوم» على مسرح سينما قصر النيل فترة الستينيات من القرن الفائت لمدة قاربت السنوات العشر. 

 أمّا عن أشهر عمارات هذا الشارع العتيق فهى عمارة الإيموبيليا التى تقع فى تقاطع قصر النيل مع شريف، وهى بذاتها مشهود لها أنها عمل معمارى فريد شَيّدته شركة فرنسية إيطالية، كما قامت شركة أخرى إنجليزية بتزيين الممرات. 

وكانت العمارة قديمًا إحدى ممتلكات المليونير المصرى المعروف فى هذا الوقت «أحمد باشا عبود»، والآن تتبع مِلكيتها إحدى شركات الإسكان المعروفة. 

عمارة الإيموبيليا خلال فترة الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضى كانت مركزًا جاذبًا لسكن مشاهير الفن، ومنهم نجيب الريحانى وليلى مراد وزوجها أنور وجدى وموسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب وكاميليا ومحمد فوزى والملحن كمال الطويل ومعه عبدالحليم حافظ قبل انتقاله لحى الزمالك، وكذلك ماجدة الخطيب، ومحمود المليجى وزوجته علوية جميل وأسمهان وأحمد سالم، ومن الأدباء سكنها الأديب الكبير توفيق الحكيم. 

كما سكن بها الخواجة سلفادور شيكوريل صاحب المحلات الشهيرة، وكان من ضمن سكانها البرنس «إسماعيل باشا حسن» رئيس الديوان الملكى، كما ضمت العمارة آنذاك مكاتب لأم كلثوم وعبدالحليم حافظ والمنتجة آسيا وأنور وجدى وآخرين.