حين ينطق الحيوان بـ«الحكمة» و«السخرية»!

سامح إدوار سعدالله
فى عالم الكتابة والأدب، لا يكون الحيوان مجرد كائن بيولوجى كما فى كتب الطبيعة، بل يستطيع المبدع أن يحوّله إلى كائن رمزى يتكلم باسم الإنسان و الإنسانية ويحمل معها مشاعره وأفكاره و أحاسيسه، ويعبّر عن أحلامه وهواجسه، عن سلطته وخوفه، عن طمعه وفطرته. ويكون هو الصوت المتكلّم بديلًا عن البشر، ليخدم أغراضه من خلال أسلوب رمزى شيّق وبديع، بحيث يستطيع إرسال رسالته دون أى خوف أو اعتبارات أخرى مهما كانت. إذ أدرك المبدعون والأدباء أن للحيوان لغةً إن أُحسن ترميزها وتفسيرها، باتت وسيلة باهرة للكلام والحدث من خلال الرمز، وللتهذيب دون وعظ، وللسخرية دون خصومة.
تخبرنا المخطوطات القديمة والكتب الحديثة عن نماذج لهذا الأدب، فى جميع بقاع الأرض شرقًا وغربًا، شمالًا وجنوبًا، إذ إن الأدب لا يعرف مكانًا أو زمانًا.
نخصّ أولًا الشرق الأدنى والأوسط القديم، سنجد كتابين شامخين من أعمدة الأدب العربى القديم: «كليلة ودمنة» وألف ليلة وليلة» هما مصدر إلهامٍ للكثير من المبدعين والكتّاب على مر العصور. ينتمى الأول إلى عالم الحيوان الناطق بالحكمة، ويغوص الثانى فى عالم البشر المسكون بالسحر والمكائد. وإن اختلفت ملامحهما، يحملان جوهرًا واحدًا: التعليم عبر الحكاية، والتهذيب عبر الخيال.
«كليلة ودمنة» ليس كتابًا عربيّ الأصل، بل هو ثمرة الترجمة التى عرفناها منذ القدم بين الثقافات؛ إذ تعود جذوره إلى الهند، حيث كُتب أولًا بالسنسكريتية، ثم تُرجم إلى الفهلوية الفارسية، قبل أن يضعه عبد الله بن المقفّع فى حلّته العربية البديعة. وهو من أمهات الكتب العربية.
أما «ألف ليلة وليلة»، فهو كتاب وُلد من رحمٍ عربي، لكنّه أيضًا تشكّل من روافد شتّى؛ فارسية، هندية، وعربية، قبل أن يظهر فى صورته التى نعرفها اليوم، من خلال سرد شهريار وشهرزاد.
المؤلف فى «كليلة ودمنة» معروف: ابن المقفّع، الأديب والسياسي، الذى أخفى بين فصوله الأدبية رسائل مبطّنة للسلطة والمجتمع، مستخدمًا لسان الحيوانات كقناع رمزى يدخل منه إلى التعبير عن أفكاره ومنتج فلسفته التى لم يكن يستطيع البوح بها علنًا. بينما تبقى هوية مؤلف «ألف ليلة وليلة» غير معروفة، إذ يختلف حوله الباحثون. يرى وليم لين، الذى ترجم الكتاب سنة 1839 ميلادية، أن كاتبه شخص واحد، فى حين يرى آخرون أن مؤلفه مجموعة من المؤلفين، وذلك لاحتواء على تنوّع كبير على الصعيد الجغرافي، كورود أحداث القصص فى اليونان، وتركيا، ومصر، والعراق. بذلك يُعدّ الكتاب عملًا جماعيًا تراكم على مدى قرون، تُضاف إليه حكايات وتُحذف أخرى، حتى غدا كما نعرفه اليوم: مرآةً عاكسة لتجربة الإنسان الشرقى فى مجده وانكساره.
لكن الاختلاف لا يقف عند المؤلف. فـ«كليلة ودمنة» يتّخذ من الحيوانات الناطقة أبطالًا، ليقدّم عبرهم دروسًا فى السياسة، والسلطة، والخداع، والحكمة. أما «ألف ليلة وليلة»، فيدور فى عالم الملوك والسحرة واللصوص والعشّاق والعبيد، متّخذًا من الحكاية أداة للتسلية، لكن أيضًا للتحريض على الفضيلة، والحذر من الشر، والانتصار للذكاء والفطنة. أما من حيث المغزى، فكلا الكتابين يتشاركان فى هدفٍ نبيل: تهذيب النفس البشرية عبر التسلية الحكيمة.
الكتابان، على تفاوت أصولهما وأقنعتهما، يتّفقان فى النهاية على أن الحكاية هى وسيلة للبقاء، وسلاح للمقاومة، ومحرّك للعقل والوجدان. وإذا كانت شهرزاد قد أنقذت حياتها بألف حكاية، فإن ابن المقفّع حاول إنقاذ مجتمعه بكلمة قالها الأسد على لسان ثعلب. فى عالم الأدب، لا يُعدّ الحيوان مجرّد كائن بريء يتجوّل فى الغابة، بل يصبح أداة رمزية، ولسانًا حادًّا، ومرآةً عاكسة لأعماق الإنسان.
مزرعة الحيوان
ومن هذا الباب، يتقاطع كتاب «كليلة ودمنة»، الذى كُتب قبل أكثر من ألف عام، مع رواية «مزرعة الحيوان» للكاتب البريطانى جورج أورويل، رغم الفارق الشاسع فى الزمن والبيئة والثقافة. كلاهما يتّخذ الحيوان ناطقًا باسم الإنسان، لكن لكلٍ غايته، وصوته، ونبرته الخاصة.

فى «كليلة ودمنة»، التى نقلها ابن المقفّع عن الأصل الهندي، نجد عالمًا من الحكايات التى تدور بين أسدٍ وثعلبٍ وغرابٍ وسلحفاة، يتحدثون ويتآمرون ويتعلمون ويعلّمون. المغزى هنا أخلاقى وسياسى فى آنٍ واحد، لكن بطابعٍ تعليمى تهذيبي، يُوجَّه إلى الملوك والنخب، بوصفه مرآةً للسلطة والحكمة، حيث يظهر المكر والوفاء، والخيانة والنصيحة، فى قالب رمزى بعيد عن المواجهة الصريحة.
أما فى «مزرعة الحيوان»، وهى الرواية التى نشرها أورويل سنة 1945، فالحكاية تختلف. ليست قصة رمزية تقليدية، بل سخرية سياسية قاسية، هجاءٌ حادّ لأنظمة القمع والاستبداد، وبالأخص الثورة البلشفية وما أعقبها من حكم ستاليني. تقود الخنازير ثورة على البشر فى مزرعة، يرفعون شعارات العدالة والمساواة، ثم يتحوّلون شيئًا فشيئًا إلى نسخة أكثر قبحًا من الطغاة الذين ثاروا عليهم. هنا، يصبح الحيوان مرآة مباشرة للإنسان السياسي، لا الفيلسوف أو الحكيم. كليلة ودمنة» أداة نصحٍ ناعم موجّهة للحكّام، يعرض عبرها ابن المقفّع أفكاره فى الحكم والتدبير دون أن يصطدم بجدران السلطان. بينما «مزرعة الحيوان» هى صرخةُ مواطنٍ ساخط، يريد فضح خيانة الثورة، والوقوف فى وجه الفلسفة الشمولية.
«كليلة ودمنة» ينهل من لغةٍ عربية بيانية، تعتمد على الحكايات داخل الحكايات، وعلى الحكمة والأمثال. أما أورويل فكتب بلغةٍ إنجليزية بسيطة، مباشرة، لكنها قاتلة فى تأثيرها، واعتمد على الرمز السياسى لا الأخلاقى فقط.
فى كتاب ابن المقفّع، وُجِّه الخطاب أساسًا للنخبة السياسية، ليكون دليلًا فى الحكم والتفكّر. أما جورج أورويل، فقد كتب «مزرعة الحيوان» للجماهير، للقرّاء العاديين الذين يعانون من ويلات الأنظمة، ويرون الثورة تُسرق من بين أيديهم.
ومع هذا، فإن العملين يشتركان فى فكرة واحدة خالدة:حين تعجز الحقيقة عن أن تُقال صراحة، ينطق بها الحيوان. كلٌّ من الثعلب فى «كليلة ودمنة» والخنزير «نابليون» فى «مزرعة الحيوان»، يقولان شيئًا عن الإنسان: عن طمعه، عن جبروته، عن هشاشته الأخلاقية، وعن الوهم الكبير الذى يُباع تحت شعارات براقة.
وبين الشرق العباسى الذى كتب فيه ابن المقفّع، والغرب الصناعى الذى عاش فيه أورويل، تظل الحكاية على لسان الحيوان واحدة من أكثر أدوات الأدب سحرًا، إذ تسخر دون أن تجرح، وتعلّم دون أن تعظ. فى الغرب، بعد قرونٍ طويلة من هذا النمط الأدبي، يظهر جورج أورويل بروايته الخالدة «مزرعة الحيوان»، ليعيد استخدام الحيوان، لكن لا ليهذّب، بل ليفضح. رواية قصيرة، لكنها ثقيلة كالمرآة التى لا ترحم، تعكس وجه الطغيان الثورى حين يتحوّل الحلم بالعدالة إلى كابوس استبدادى جديد.
لم تكن «مزرعة الحيوان» حكاية أطفال، بل صرخة سياسية موجّهة لعالمٍ بالغٍ خائب الأمل، حيث يتحوّل الخنزير إلى طاغية، ويتحوّل المَثل إلى شعارات خاوية.
وبين الثعلب الشرقى والخنزير الغربى، تمتدّ جسور من الرمز العميق، حيث تلتقى الحكاية بالسياسة، ويلتقى التهذيب بالسخرية. فى الشرق، كان الحيوان حكيمًا، يتحدّث باسم الفضيلة، ويشير برفقٍ إلى العيوب. فى الغرب، صار الحيوان ناقمًا، يصرخ فى وجه القهر، ويحطّم وهم الثورة المقدّسة . ومع هذا، يتفق الشرق والغرب على أمرٍ جوهرى: أن الحكاية حين تُروى على لسان الحيوان، تغدو أكثر صدقًا، وأكثر حرية. إن الغاية الأدبية لأدب الحيوان لا يكمن فقط فى الطرافة، بل فى قدرته الفائقة على تجاوز الرقابة، والوصول إلى عقول الناس دون مقاومة.
إنه نوعٌ من «اللغة على لسان الحيوانات» كى يصل برسالته بطريقة سلسة، وبسيطة، حيث يستطيع أن يقول ما يريده دون خوف أو اعتبارات أخلاقية أو أدبية أو غيرها.