حكايات صبرى موسى

منير مطاوع
أكتب هذه الحكايات والذكريات من الذاكرة واعتمادا على بعض ما أمكن جمعه من مواد وصور، وأترك لنفسى حرية التجوّل فى دوائر الذكرى دون تخطيط مسبق حتى أشعر براحة ومتعة لا تحققها عملية التوثيق الأرشيفية ولا يتحقق معها للقارئ ذلك الشعور بالمتعة والمؤانسة.
ومع أن الحكايات والومضات تتزاحم فى رأسى، ومع أن بعض الأسماء تختفى من شريط الذاكرة بفعل التقادم، وتشابك الأحداث والوقائع والشخصيات والمشاعر، فإن ما يهمنى أكثر هو جوهر كل حكاية أو ومضة أو واقعة.
ملاحظة طريفة جدا خطرت على بالى وأنا أتهيأ لكتابة هذا الحديث، هى أن هناك شيئًا مشتركًا بين صديقى الكاتب الروائى والصحفى والسيناريست المبدع وبين نجم الفكاهة الذى لا يتكرر الفنان المدهش إسماعيل ياسين!
سيقول من يقرأ السطور السابقة أنه ليست هناك بالتأكيد أى علاقة بينهما.. من أى نوع، وهذا صحيح فى حدود علمى، فما قصدته ليس العلاقة الشخصية، ولكن بعد شيء من التفكير ودقة الملاحظة وجدت أن صبرى موسى هو الكاتب الصحفى الوحيد الذى كان عنوان سلسلة مقالاته هو: «حكايات صبرى موسى»
كانت حكايات تجمع بين الصحافة والأدب فى صياغتها وترسم تفاصيل وملامح من حياتنا الواقعية فى ذلك الوقت فى الستينيات من القرن العشرين.. يرويها بفن واقتدار ولغة بسيطة أقرب إلى العامية بل فيها عبارات عامية.

وهذه المادة كان المفروض أن تقدم على صفحات «صباح الخير» كل أسبوع بعنوان «حكايات» فقط.. لكن رئيس التحرير فى ذلك الوقت كان ممن يعملون على تقدير إبداع أعضاء فريقه فى المجلة ومن هنا قرر أن يكون العنوان «حكايات صبرى موسى».
وكان صبرى يكتبها تحت هذا العنوان ثم يضع توقيعه «صبرى موسى»!
وعندما استذكرت هذه الوقائع التى تقدم لنا بعض ملامح شخصية رئيس التحرير المتميز فتحى غانم، وجدتنى أرصد هذه الملاحظة الطريفة التى بدأت بها حديثي: فالفنان الوحيد فى تاريخ السينما المصرية الذى كانت الأفلام التى يقوم ببطولتها تحمل اسمه فى عناوينها هو إسماعيل ياسين.
والكاتب الصحفى الوحيد الذى حملت عناوين كتاباته وحكاياته اسمه هو صبرى موسى.
وهذا ما يجمع بينهما..
نصحنى بكتابة القصص والروايات
ربطتنى به صداقة منذ وجدته فى سنواتى الأولى فى «صباح الخير» ينصحنى أن أكتب قصصًا وروايات، لأنه وجد فى أسلوبى فى كتابة التحقيقات الصحفية بشائر أدبية.
ومع أننى لم أستجب لفكرته إلا بعد ذلك بفترة، فقد كنت أتتبع أعماله الأدبية قصة ورواية، وأذكر أننى عند قراءة روايته البديعة «فساد الأمكنة» وجدتنى أكتب لنفسى على بعض أوراقى انطباعاتى وأفكارى حولها وحول تميزها الباهر.
وتصادف أن اطلع صبرى موسى على هذه الأوراق فأخذها ليقرأها.. وبعد فترة وجدته يأتى لى بعدد مجلة «الأقلام» الثقافية العراقية وقد نشرت فيه انطباعاتى هذه..
ليس هذا فقط بل قدم لى مبلغًا من المال هو ما دفعته المجلة مقابل مقالى.
وهناك حكايات كثيرة من هذا النوع وقعت لى معه ومع زميلنا فى «صباح الخير» وصديقنا المشترك عبدالله الطوخى.
وكانا أكثر من يكتب القصص والروايات وينشرها على صفحات المجلة، كما أنهما كانا متلازمين وفى حوار متواصل حول الأدب والفن الذى ينتجانه، وكنت أحضر بعض هذه الحوارات وأتعلم منها.
درس مهم
ومن طرائف صبرى موسى أنه كان أحيانا يضع تصورًا عن رواية جديدة سوف ينشغل بكتابتها لنشرها فى المجلة ويعطى بيانات عن اسم الرواية لرئيس التحرير الذى يتحمس لها ويبدأ فى إعداد ونشر إعلانات فى كل عدد عن رواية صبرى موسى الجديدة، فتنشر الإعلانات عددًا وراء عدد، ثم يأتى موعد بداية نشر حلقات الرواية، فيكتشف رئيس التحرير ومعاونوه أن الكاتب لم يكتب سطرًا واحدًا فى روايته..
فيتوقف نشر الإعلانات عن الرواية ويتعلم الجميع درسًا مهمًا فى سكرتارية التحرير: لا تنشر أى إشارة عن رواية أو مادة صحفية إلا إذا كانت فى يدك.. وليس على الشجرةّ!

كتب صبرى موسى روايات عدة نشرت كلها فى «صباح الخير» وله أيضًا عدة مجموعات قصصية ويعتبر رائدًا فى مجال أدبى لم يسبقه إليه كاتب آخر هو الأدب العلمى.. أو ما يمكن تسميته بـ«أدب المستقبل» وذلك بروايته «السيد فى حقل السبانخ» التى تجعل القارئ يعيش فى عالم لن يعيشه فى حياته، لأنه عالم ستقع أحداثه بعد مئة سنة أو أكثر!
وفى الحقيقة استقبلت هذه الرواية بحفاوة من جانب الكتاب والنقاد، لكن آخرين لم تلق لديهم الترحيب نفسه، وربما كان ذلك ما جعل صبرى موسى يتوقف عن مواصلة هذا الاتجاه الأدبى غير المسبوق.
وعندما كان مقررًا للجنة القصة فى المجلس الأعلى للثقافة، كنت قد هاجرت إلى لندن وأكتب من هناك بانتظام «3 حكايات من لندن».
وعندما التقيته خلال زيارتى السنوية للقاهرة اقترح علىّ أن أجمع هذه الحكايات فى كتاب لأنه يريد أن ترشحها لجنة القصة لجائزة أدب الرحلات.. فهى فى تقديره نوع جديد من أدب الرحلات جدير بالاهتمام.
تجمعت لدىَّ من هذه الحكايات مادة تكفى لثلاثة كتب.. وبدأت فى ترتيبها وتجهيزها بحماس.. لكن حماسى هذا فتر فجأة.. لا أتذكر السبب الآن.
نوع أدبى مختلف
نعود لـ«حكايات صبرى موسى».. فهى نوع أدبى مختلف عن الشائع فى فن القصة القصيرة، هى لقطات صحفية أدبية بعين فنان ثاقب النظرة شديد الانتباه لما قد يمر علينا دون انتباه، من تفاصيل ووقائع نعيشها يوميًا وفى كل لحظة.
يلتقطها صبرى موسى ويقدمها لنا فى صورة صحفية أدبية مدهشة وممتعة ومؤثرة وتثير فينا الإحساس بروعة الحياة وروعة الإنسان وهو يمضى فى حياته بمعاناتها ولحظاتها السعيدة الخاطفة ومفارقاتها الأليمة. وكان يلفت نظرى فى هذه الحكايات بالإضافة إلى حصافة اللقطة والتعبير عنها وملامح الحياة التى نعيشها فى الخمسينيات والستينيات، براعة العناوين، ولنذكر بعضها هنا:

الأفندى ضحك على الحمار
جرح فى فم الذبابة
الأستاذ صلاح مش عارف إيه
الشيخ صابر يمشى على الماء
سعدية وقعت من البلكونة
نال صبرى موسى جوائز عدة لكن جائزة الدولة التقديرية تأخرت عليه ونالها من هم أقل مكانة فى عالم الإبداع الأدبى، لكنه لم يحتج.. تقبل الأمور ببساطة لأنه فاز من قبل بجوائز مهمة كجائزة «بيجاسوس» (الفرس المجنح) الأمريكية العالمية عن روايته «فساد الأمكنة» وقد احتفلوا به وبالرواية هناك..
ولاحظنا عند صدور الرواية فى كتاب سنة 1977 أن هناك حملة شديدة عليها وعلى كاتبها، لماذا؟
لأنها رشحت للفوز بالجائزة الأمريكية، وبدا لنا أن هذه الحملة وراءها جهات تعادى مصر وكتَّابها، فقد كانت تعترض على قبول صبرى موسى لجائزة تمولها إحدى أكبر شركات البترول فى العالم ورشحه لها فرع الشركة فى مصر، وهى شركة «موبيل» ورد كاتبنا على هذه الحملة بأن جائزة «نوبل» وهى أعلى جائزة أدبية فى العالم كان وراءها مال جاء من صناعة البارود، وأنها مع ذلك حققت نجاحا كبيرا فى تقدير الأدب والأدباء حول العالم، وجائزة «موبيل» أو (الفرس المجنح) تمولها شركة بترول للهدف نفسه وهو تقدير وترويج الأدب الحديث الذى يبدعه أدباء من مختلف أنحاء العالم ونشره فى مختلف أنحاء العالم، وهذه رسالة حضارية تحسب لشركة البترول.
تصدى صبرى موسى للحملة المسمومة وأطاح بها، لكنه اضطر إلى عدم قبول الجائزة المالية، واكتفى بالفوز بالجائزة المعنوية وبترجمة روايته البديعة إلى اللغة الإنجليزية ونشرها فى أنحاء العالم حتى تشارك مصر فى هذا النشاط الحضارى.
وبالمناسبة فهذه الرواية وفرت له - قبل أن يكتبها - أول منحة تفرغ تقررها الدولة لأديب سنة 1966 ولمدة سنة.
وأمضى صبرى موسى 7 سنوات يكتبها، حيث نشرت مسلسلة فى «صباح الخير» ثم صدرت فى كتاب سنة 1973.
ومعروف طبعًا أنه استوحاها بتأثير رحلاته الشهيرة فى صحراء مصر، وهى رحلات غير مسبوقة وتردد أن الرئيس عبدالناصر كان يتابعها فى «صباح الخير» باهتمام ملحوظ وأنه أصدر قرارات جمهورية بإنشاء محافظة البحر الأحمر ثم محافظة الوادى الجديد بعد قراءته لرحلات صبرى موسى فى صحراء مصر.
وأختم حديثى الذى لا أريد له أن ينتهى عن أديبنا الرائد فى أكثر من مجال، بملحوظة طريفة هى أن «صباح الخير» نالت جائزة الدولة التقديرية فى الأدب مرتين فى سنتين متواليتين، حيث فاز بها زميلنا الأديب علاء الديب وفى السنة التالية حصدها صبرى موسى.. وكلاهما من أدباء «صباح الخير».
وفى الأسبوع المقبل نواصل