بين السطور
عندما تكون الخطيئة مرآة الروح «غوّاى»

قرأ الرواية: حسام باظة
فى رواية «غوّاى» للكاتبة وفاء شهاب الدين الصادرة حديثًا عن مجموعة النيل العربية بالقاهرة، نجد أنفسنا أمام عمل أدبى يستدرج القارئ كما تستدرج الغواية قلب العاشق، فلا يملك إلا أن يستسلم لسحر السرد، متورطًا فى عالمٍ يشتبك فيه المحظور بالمباح، والبراءة بالذنب، حتى تتماهى الحدود، وتصبح الحقيقة ككفّ امرأة ترتجف تحت المطر، لا تعرف إن كانت تطلب دفئًا أم خلاصًا.
تُفتَح الرواية على نغمة شجن خفى، كموسيقى خلفية لحلمٍ مشوب بالقلق. ليست «غوّاى» مجرّد قصة، بل هى مساحة لتأمل الضعف الإنسانى حين يلتقى بالشغف، وحين تتحول الرغبة إلى لعنة، والحنين إلى خنجر بارد فى خاصرة الروح. إنّ بطلة الرواية لا تُرسم كضحية ولا كخاطئة، بل ككائن يتلوى فى مرجل الأسئلة الوجودية، تارةً تستجدى الغفران، وتارةً تسخر من فكرة الخلاص برمّتها.
السرد فى «غوّاى» مشغول بعناية نادرة، حيث تتداخل الأزمنة كأنها أنفاس راقصة فى غرفة مغلقة، والحوار لا يأتى لأداء وظيفة بل ليكشف المستور، وليدفع القارئ دفعًا إلى مناطق داخلية لم يكن يجرؤ على ولوجها. الكاتبة هنا لا تهادن، بل تمسك بيد قارئها وتأخذه إلى الحافة، ثم تهمس فى أذنه: «انظر… هذه أنت، إذا ما كُشفت كل أقنعتك». فاللغة هنا هى البطل الحقيقى، لغة مشبعة بالإيحاءات، أنثوية الإيقاع، جريئة دون ابتذال، رقيقة دون ضعف. كل جملة كأنها قطرة عطرٍ مُرٍ تسيل على جلدٍ متعب، توقظه ولا تريحه. وفاء شهاب الدين فى هذه الرواية تُراهن على الكتابة كفعل مواجهة، لا كأداة تسلية؛ ولذلك فإن «غوّاى» ليست رواية تُقرأ بل تُعاش.
تمضى الرواية فى خط سردى ملتف كأفعى، حيث تتشابك الحكايات وتتماوج الرغبات، فلا يعود القارئ متأكدًا إن كان يقرأ عن امرأة واحدة أم عن شظايا امرأة تكسّرت تحت وطأة التجربة. البطلة ليست نموذجًا نمطيًا ولا صوتًا خافتًا، بل كيانٌ متمرّد ينهض من بين الرماد، يرفض التصنيف، ويتحرّك بين الحب والرفض، بين الندم والرغبة فى الانتقام، كأنها تمشى على حافة هاوية كلما ظنّ القارئ أنها اقتربت من النجاة.
حين تمسك برواية «غوّاى»، لا تتوقع أن تدخل عالمًا هادئًا أو حكايةً تمضى فى خط مستقيم… بل استعدّ لأن تُسحب إلى دوّامة من المشاعر المتناقضة، حيث تتقاطع الرغبة مع الندم، وتتمازج البراءة بالخطيئة، ويصبح الحب نفسه بابًا مواربًا على الجحيم.
«غوّاى» ليست مجرد عنوانٍ لافت، بل مفتاحٌ ثقافى يحمل جذوره فى اللغة البدوية، حيث تعنى الكلمة «الحبيب كثير الحب»، ذاك الذى لا يهدأ قلبه ولا يعرف الاعتدال فى العاطفة… وكأن الكاتبة أرادت منذ اللحظة الأولى أن تشير إلى أن ما ينتظرنا ليست حكاية حب تقليدية، بل مواجهة عميقة مع أنفسنا. فى هذه الرواية، تكتب وفاء شهاب الدين من داخل الجرح، لا من خارجه. تُعرّى النفس البشرية، وتقدّم بطلتها لا كضحية ولا كمذنبة، بل كامرأة تنوء تحت ثقل الشعور، وتسير فى دربٍ غير ممهد نحو ذاتها الحقيقية.
لا تكتفى وفاء شهاب الدين برسم الشخصيات، بل تغوص فى دواخلها، وتجرّدها من الزيف، وتقدّمها لنا مشحونة بالتناقض، وهذا ما يمنح الرواية نبضها الحقيقى.
الرواية تطرح سؤالًا مؤلمًا: من الذى يدين من؟ الرجل الذى سقط فى الغواية، أم مجتمع لا يرحم؟ هل كان البطل مذنبًا فعلًا، أم أن العالم من حوله كان مهيأ لسقوطه منذ البدء؟ هنا، تتقاطع «غوّاى» مع كل التجارب الإنسانية التى يُدفع فيها الأفراد إلى الخطأ، ثم يُصلبون وحدهم على خشبة العار.
إن «غوّاى» ليست قصة تُقرأ مرة وتُطوى، بل وجعٌ يُستدعى كلما فكرنا فى معنى الحب، وفى كُلفة أن تكون كثير الحب.. أن تكون «غوّاى».