مصر تحاصر مرض الغلابة

تابعت استراتيجية المواجهة: بسمة مصطفى عمر
فى زمن لم يعد فيه المرض مجرد حالة بيولوجية، بل جزءاً من معادلة اجتماعية واقتصادية وشديدة التعقيد، يواصل الدرن ذلك «الضيف الثقيل» على صدور الغلابة، محاولاته للتمركز، مستفيدا من تغير المناخ، والازدحام، وسوء التهوية، وإهمال العلاج أحيانا أو تجاهله.
مازالت صورة هذا المرض محفورة فى الأذهان، وبعض أعراضه فبين صخب الجوائح وتغيرات المناخ، يحاول «الدرن» أن يجد لنفسه مكانا فى زحام الأمراض، لكن يواجهه فى مصر جيل من الكوادر الطبية المدربة، واستراتيجيات استباقية لم تترك له فرصة للتخفى.
تشهد مستشفيات الصدر تقدما علميا واسعا، ومهارات دقيقة فى تشخيص وعلاج الدرن بكافة أشكاله وخاصة السلالات المقاومة، بخضوع مئات الأطباء والممرضين لدورات تخصصية فى الرعاية التنفسية، والتعامل مع الدرن الكامن، ومتابعة المخالطين، كما جرى تدريب فرق بحثية على تحليل الأوراق العلمية واستيعاب التحديثات الدولية.
تفتح مجلة «صباح الخير» ملف الدرن، من غرف العزل فى مستشفيات الصدر، ومراكز الأبحاث، وجهود الأطباء لتعرض كيف حاصرت مصر هذا المرض بخطط دقيقة، وعلاجات متقدمة، ولقاحات متوافرة، وكوادر مؤهلة، دون أن تغفل الفئات الأكثر احتياجا.
ومن خلال تصريحات خبراء ملف هذا المرض القديم، تتضح الصورة الجديدة وأسرار نجاح البرنامج المصرى لمكافحته، وحجم التحديات، والآمال المنتظرة خلال الفترة من عام 2025 وحتى 2030.
بروتوكولات مزدوجة
أكد الدكتور وليد كمال، مدير بالبرنامج الإنمائى للأمم المتحدة، أن ما تقدمه المنظمة لمصر فى مجال مكافحة الدرن، يرتكز فى الأساس على الدعم الفني، بهدف تعزيز الاستراتيجية الوطنية 2030، من خلال المساهمة فى تطوير السياسات، وتحديث اللوائح، وتقديم التدريبات التنسيقية المتخصصة.
وقال إن الدعم الفنى يشمل تحسين جودة المعلومات الاستراتيجية ذات الدلالة الإحصائية، والتى تبنى عليها قرارات صحية قائمة على أساس علمي.
وأشار إلى أن المنظمة تقدم أحيانا دعما ماليا محدودا، يخصص لتنظيم تبادل الخبرات، بينما تتحمل وزارة الصحة الجانب الأكبر من التمويل، بفضل برامجها التدريبية المتعمقة وكوادرها الفنية المتميزة.
وحول آليات المتابعة، شدد وليد كمال، على أن العلاقة بين المنظمة ووزارة الصحة شراكة تكاملية تستهدف التحسين المستمر، موضحا أن المتابعة الميدانية تدار من قِبل الوزارة، بينما تسهم المنظمة فى المراجعة الفنية، والمساعدة فى بناء الأدلة الإرشادية المستندة إلى الواقع العملي، وليس النظريات المجردة.
وعن مدى التزام مصر بالمعايير الدولية فى مكافحة الدرن، أكد مدير البرنامج بالمنظمة، على توافق الخدمة العلاجية المقدمة داخل المستشفيات والمراكز الصحية فى مصر بنسبة 100% مع المعايير الدولية.
أما من حيث الأدلة الإرشادية أو الأجهزة المستخدمة أو أنواع الأدوية المعتمدة من منظمة الصحة العالمية، فتطبق فى مصر بنسبة تقارب الـ 90% من المعايير العالمية.

خطط متكاملة
وقال كمال: إن هناك بروتوكولات علاجية رسمية تحتوى على فصول خاصة بالإضافة إلى بروتوكول مستقل لتنظيم التعاون بين أطباء الحميات والصدر يتم تنفيذه فى صورة استشارات موحدة، سواء بالحضور المباشر أو عبر نظم العلاج عن بعد.
وأكد أن أغلب المحافظات المصرية تشهد تعاونا وثيقا بين وحدات علاج الدرن، التى غالبا ما تكون متجاورة جغرافيا، وتنظم اجتماعات دورية ربع سنوية مشتركة، لضمان تحديث البروتوكولات والتجارب العلاجية.
المكافحة فى مصر
أوضح الدكتور وجدى أمين، مدير البرنامج القومى لمكافحة الدرن، مدير الإدارة العامة للأمراض الصدرية بوزارة الصحة، أن الذكاء الاصطناعى أصبح أداة مهمة فى الاكتشاف المبكر للمرض، وباتت البرامج الحديثة قادرة على تحليل صور الأشعة الصدرية، والتقاط علامات الإصابة بالدرن قبل أن تكون مرئية بالطرق التقليدية.وبدأت هذه الطفرة التكنولوجية بالتزامن مع جائحة كوفيد-19، ومنذ ذلك الحين تطورت لتكتشف حتى 24 مرضًا صدريًا، منها التليف الرئوي، والتمدد الشعبي، وأورام الرئة، والدرن.
ويعتمد هذا النوع من البرمجيات على تغذيته بآلاف من صور الأشعة المصنفة سلفا، مما يمكنه من التعرف على الأنماط المرضية، وحصلت بعض هذه البرمجيات على اعتماد دولي، وأُدرجت فى الأدلة الإرشادية لمنظمة الصحة العالمية لمكافحة الدرن.
كما أصبحت تستخدم فى حملات الكشف المبكر، وبدأ تطبيقها فى 3 مستشفيات هى صدر العباسية، وإمبابة، والمرج، ضمن مبادرة رئاسية للكشف عن أورام الرئة، على أن يتم توسيع نطاق استخدامها إذا أثبتت نتائج إيجابية.
وأشار الدكتور وجدي، إلى أن التغيرات المناخية تسهم فى ارتفاع معدلات الإصابة بالدرن، بسبب ارتباطها المباشر بحركة النزوح السكاني، فحين يتجه سكان مناطق منكوبة بفعل التغيرات المناخية كالفيضانات أو الجفاف إلى أماكن أخرى، ترتفع الكثافة السكانية فى هذه المناطق الجديدة، مما يزيد من فرص انتشار الأمراض المعدية، لذلك أصبح من الضرورى وضع البرامج الصحية خططا استباقية للرصد فى مثل هذه الظروف.
وأوضح مدير إدارة الأمراض الصدرية، أن اكتشاف الإصابة بالدرن يتطلب فترة حضانة طويلة، ولا تظهر الأعراض فورا بعد انتقال العدوى، لذلك لا تستخدم وسائل التشخيص السريعة فى هذه الحالة، وإنما يتم الاعتماد على متابعة الأعراض.
تكلفة العلاج
تكلفة علاج مريض الدرن فى مصر تصل إلى نحو 20 ألف جنيه على مدار 6 أشهر، تتحملها الدولة بالكامل، وتشمل الأدوية، والفحوصات والمتابعة والإقامة، كما يمر العلاج بمرحلتين، الأولى علاج مكثف على مدار شهرين، يتبعه علاج تكميلى لعدة أشهر.
أما عن اللقاحات، فأكد الدكتور وجدى أمين، أن هناك لقاحا جديدا لا يزال قيد التجارب وقد أظهر نتائج أولية مبشرة فى منع تحول الدرن الكامن إلى نشط، ويتوقع أن يحدث هذا التطعيم نقلة فى الوقاية، لأنه قد يعطى مرة واحدة ويوفر حماية تمتد من 5 إلى 7 سنوات، وهى مدة قريبة من أثر العلاج التقليدى للدرن الكامن.
أما عن معدل الإصابة الحالى فى مصر فقال إن مصر من الدول منخفضة الانتشار للدرن، والهدف ضمن استراتيجية 2030 هو خفض هذا المعدل إلى 3 حالات لكل 100 ألف، وقال الاستراتيجية بدأت فى 2015، ومن المنتظر أن تظهر نتائج مرحلتها الحالية بنهاية.
وأوضح أن رصد المعدلات يتم عبر برامج ترصد مخصصة، تستند إلى بيانات الحالات والفئات الأكثر عرضة للإصابة، مثل مرضى نقص المناعة، والفشل الكلوي، وزراعة الأعضاء، والذين يتلقون أدوية مثبطة للمناعة، كمرضى الروماتويد أو الساركويد، ويتم استهداف هذه الفئات بشكل دقيق لضمان أعلى مردود للكشف المبكر.
وشدد وجدى أمين، على أهمية الالتزام بالكشف المبكر، والحرص على استكمال العلاج، لأن هذا هو السبيل الوحيد لقطع سلسلة العدوى وتقليل عدد الحالات الجديدة.
وأكد مدير إدارة الأمراض الصدرية، أن ما يحدث حاليا هو «تعبئة علمية ممنهجة»، فى مواجهة مرض الدرن، تتجاوز فكرة العلاج التقليدى إلى تطوير شامل فى الفكر الطبي، من خلال تدريب الفرق على أحدث الاستراتيجيات العالمية، والتعامل مع التحديات المعقدة مثل العدوى المشتركة بين الدرن ونقص المناعة.
وقال: ركزنا على بناء كوادر تمتلك أدوات التشخيص والعلاج، وفهم أوسع لطبيعة المرض، وأطباء وصيادلة تتعامل مع إدارة الدواء وآثاره الجانبية، وكذلك رفع كفاءة العاملين طبقا لمعايير الجودة والملف الطبي، لتأسيس منظومة علاج متكاملة ومعتمدة.
تحدى مستمر من جانبه وصف الدكتور محمد عوض تاج، مستشار رئيس الجمهورية لشئون الصحة والوقاية، الدرن بأنه «مرض الغلابة»، فى إشارة إلى ارتباطه بالفئات الأكثر هشاشة اقتصاديا واجتماعيا.
وأكد أن مصر شهدت طفرة كبيرة فى مكافحة الدرن، بفضل بنية تحتية طبية قوية، تشمل مستشفيات ومراكز صدرية مجهزة بكافة الإمكانيات التشخيصية والعلاجية، ما يجعل رحلة المريض أكثر سلاسة وكفاءة.
وأكد أن مصر لديها كوادر طبية متميزة فى الأمراض الصدرية، تتمتع بخبرة واسعة، وتعمل ضمن منظومة موحدة تضم وزارات الصحة والتعليم العالى والقوات المسلحة، هذا التكامل يعزز فعالية البرنامج الوطنى لمكافحة الدرن، ويضمن تطبيقا دقيقا ومهنيا فى جميع أنحاء الدولة.

وأكد تاج الدين، أن التطعيم الأساسى ضد الدرن يعطى لجميع الأطفال حديثى الولادة فى مصر، ويوفر مناعة جزئية، لكنه لا يمنع الإصابة بالكامل، وتتجه الأبحاث الدولية للبحث عن لقاح جديد أكثر فاعلية، خاصة للمخالطين والبالغين، مع وجود بعض التحديات البحثية فى هذا الصدد.
وشدد على أهمية الوقاية البيئية، مثل التهوية الجيدة، وتجنب التكدس، والنظافة، والتعامل بحذر مع المريض فى فترة العدوى، فالسعال المصحوب بالبلغم هو وسيلة انتشار رئيسية للميكروب، لاسيما فى البيئات المغلقة والمكتظة بالسكان.
وحول احتمالية تكرار العدوى، أوضح الدكتور عوض، أن المريض المتعافى إذا لم يتعرض لعدوى جديدة، فلن يصاب مجددا بينما يبقى «الدرن الكامن» وهو وجود الميكروب دون أعراض غير معد، لكنه قد يتحول إلى نشط فى ظل ضعف المناعة.
وأكد على أن سوء التغذية، ونقص المناعة، وتكدس السكان فى بيئات سيئة التهوية، ترفع فرص الإصابة، لذلك تظل الوقاية المجتمعية حجر الأساس، إلى جانب العلاج المجانى الذى توفره الدولة للمصابين.
أما الدراسات الجينية، فرغم أهميتها فى تحديد الاستعداد الوراثى للأمراض المزمنة كالسرطان والسكري، فإنها لا تعد محورا فى مرض الدرن باعتباره عدوى مكتسبة، لكن فهم البيئة الصحية العامة والوقاية يظل هو السلاح الأقوى.
ويرى عوض تاج الدين، أن التحدى الحقيقى لا يكمن فى وجود المرض، بل فى انتظام المريض، ويقظة المجتمع، وكفاءة النظام الصحي، فهذه الثلاثية هى الحصن الحقيقى فى مواجهة الدرن، سواء كان مرض الغلابة أو مرض العصور.
تدريب مكثف
فى سياق آخر أكد الدكتور حسام عبدالغفار، المتحدث الرسمى لوزارة الصحة والسكان، على أن مصر فى مواجهة مفتوحة مع أمراض الجهاز التنفسى فى ظل والتغيرات المناخية، ولذلك شهدت مستشفيات الأمراض الصدرية على مدار عام، من يناير 2024 وحتى نهاية مارس 2025، موجة واسعة من البرامج التدريبية المكثفة، والتى هدفت إلى تعزيز كفاءة الفرق الطبية وتمكينهم من التعامل بفعالية مع الأمراض التنفسية، خاصة فى ظل تصاعد تأثيرات التغيرات المناخية، وتزايد الحاجة للتصدى لمرض الدرن بمختلف أنواعه.

وقال:خضع 68 طبيبا و310 من الممرضين لتدريبات متخصصة فى الرعاية المركزة التنفسية مؤخرًا فيما تم تأهيل 38 طبيبا على أساسيات الطب الرئوي، وتدريب 195 آخرين على إجراء وفهم اختبارات وظائف التنفس، مما يعكس تركيزا واضحا على تعزيز الخبرات العملية والعلمية للأطقم المعنية بأمراض الرئة.
وفى محور آخر من التدريب، جرى تجهيز 47 طبيبا للعمل على فهم التغيرات المناخية وانعكاساتها الصحية، خاصة على أمراض الجهاز التنفسي، إلى جانب تدريب 18 من مدخلى البيانات على منظومة الترصد الوبائى والتسجيل الإلكترونى الحديث.
وقال فقد تلقى 62 طبيبا تدريبات مركزة على التعامل مع حالات الدرن الكامن، وطرق إعطاء العلاج الوقائي، وتلقى 20 طبيبا آخرين تدريبا على إدارة حالات الدرن المقاوم للأدوية، وهو أحد التحديات المتقدمة فى ساحة الأمراض المعدية.