الثلاثاء 1 يوليو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

محمد عودة بلبل الصحافة

أكتب هذه الحكايات والذكريات من الذاكرة واعتمادا على بعض ما أمكن جمعه من مواد وصور، وأترك لنفسى حرية التجوّل فى دوائر الذكرى دون تخطيط مسبق حتى أشعر براحة ومتعة لا تحققها عملية التوثيق الأرشيفية ولا يتحقق معها للقارئ ذلك الشعور بالمتعة والمؤانسة.



ومع أن الحكايات والومضات تتزاحم فى رأسى، ومع أن بعض الأسماء تختفى من شريط الذاكرة بفعل التقادم، وتشابك الأحداث والوقائع والشخصيات والمشاعر، فإن ما يهمنى أكثر هو جوهر كل حكاية أو ومضة أو واقعة.

 

خلال حصار السويس بعد هزيمة يونيو 1967 التقيت هناك الكاتب السياسى اللامع محمد عودة. هو من أوائل كتاب «صباح الخير» وله كتابات ومقالات وكتب قرأت ما تيسر لى منها فوجدتنى فى صحبة رفيعة المستوى تتناول قضايا ومعارف سياسية وفكرية وإنسانية بأسلوب راق ورقيق يتمتع بغزارة المعرفة وسلاسة التعبير وصدق التعامل مع التاريخ والواقع..

 

 

 

كان محمد عودة فى حسابات جيلى مدرسة متميزة.

وكان لقائى به فى أرض الجبهة والحرب والقتال والصراع والتطلع إلى النصر بعد التخلص من مشاعر وأسباب الهزيمة، فرصة نادرة للتعمق فى تحليل الأسباب والاحتمالات والنتائج.

وكان هو يتمتع بثقة هائلة فى قدرة الشعب وفى قيادة عبدالناصر لنقلنا إلى بر النصر، كان يبدى ملاحظاته عن أسباب الهزيمة ويطرح أفكاره عن إمكانية تحقيق النصر.. وعن العدو وكيف أنه لم ينتصرعلينا بقدر ما كنا نحن فى حال انهزام وفقدان للقيادة العسكرية، فقد ترك الأمر للمشير وهو غارق فى ملذاته ولم يتم إشراك الشعب فى تدبر الأمر فكان ما كان.

 

■ رغم الحصار 

كنا خلال حصار السويس فى حال حماس ومقاومة وتعبئة.

وكان محمد عودة هادئًا باسمًا مطمئنًا من أن الانتصار آت.. مؤكدا عدم قدرة العدو على احتلال السويس أو حتى دخولها.. رغم تعرّض المدينة الباسلة لأقصى عمليات التدمير بالصواريخ، فى مشهد لم تعرفه أى مدينة خلال الحرب العالمية الثانية.

وصدقت توقعات محمد عودة وخافت جولدا مائير وموشى ديان ومن معهما بعد أن اقتربوا بالدبابات من مشارف المدينة، خافوا من دخولها، وتراجعوا.. كانوا يعرفون أنهم بدخولهم سينتهون قتلى بأيدى وأسلحة وأسنان المصريين.

■ لماذا أسميه «بلبل الصحافة المصرية»؟

لأن البلبل يغرد بثقة وتفاؤل ولا يعبأ إلا ببث روح الإحساس بالجمال والصدق والتفاؤل والسعادة.

وفى الفكر والصحافة لعب هذا الرجل هذا الدور.. دور البلبل المغرد فى سلاسة وعلم ووطنية وثقة وفن جميل فى الكتابة الممتعة الجلية العامرة بالمعرفة والحقائق والمنطق السليم واللغة الجميلة التشكيل كما لو كانت شعرا.. وليس دروسا فى السياسة والتاريخ والإنسانية. 

وأتذكر حكاية رواها لى صديقى حسين قدرى، الصحفى وكاتب أدب الرحلات، بعد ذلك بسنوات طويلة فى لندن عندما جاء ذكر محمد عودة، فحكى لى أنه كان فى الثانية عشرة من عمره أصغر محرر فى مجلة أطفال يرأس تحريرها محمد عودة هى مجلة «البلبل»..

كان ذلك فى منتصف الأربعينيات من القرن العشرين، محمد عودة من مواليد سنة 1920 وكان عمره 25 سنة فى ذلك الوقت وحسين قدرى كان تلميذا فى المدرسة الابتدائية، نجح فى مسابقة نظمتها المجلة وحصل على كاميرا.. وعبرت له ناشرة المجلة جليلة حافظ عن إعجابها به وبأسلوبه الساخر فى كتابة الإجابة على سؤال المسابقة.. واقترحت عليه أن يعمل فى المجلة خلال العطلة الصيفية مقابل جنيه كامل كل شهر.. وهناك تعرّف على رئيس تحرير المجلة محمد عودة.

على مدى 60 عاما تحوّل محمد عودة من محام معنى بقضايا الفلاحين ضد الإقطاعيين إلى كادر سياسى فى حزب الوفد إلى أن اتجه لليسار وأعجب بثورة ما وتسى تونج فى الصين فوضع أول كتاب باللغة العربية عن الصين.

 

 

 

ورفضت الرقابة فى سنة 1952 السماح بنشر الكتاب لأنه عن دولة شيوعية، لكن مخطوطة الكتاب وصلت لعبدالناصر فقرأها فى ليلة واحدة وبعث بها إلى الرقابة وكتب عليها «ينشر الكتاب بنصه كاملا!» وصدر الكتاب فى عام 1955 بمقدمة كتبها صديقه يوسف إدريس. 

■ إعادة كتابة التاريخ

كان محمد عودة مؤيدا ومناصرا لثورة 23 يوليو منذ انطلاقها عام 1952 ويردد «يكفى أنها حققت ما كنا نحلم به ولم نستطع تحقيقه».. 

وقد ترك المحاماة إلى الكتابة فى الصحف لأنه أراد أن يتواصل مع أكبر عدد من الناس وأراد أن يعيد كتابة التاريخ من وجهة نظر واقعية وليس كما فرضه علينا من فرضوه من حكام ومستعمرين ومعاونين لهم يسمون أنفسهم «مؤرخين».. وكانت بدايته بعد الثورة فى «مجلة التحرير» التى أنشأتها الثورة.. وانتقل بعدها إلى «روزاليوسف» ثم انضم إلى «صباح الخير» منذ ميلادها.. وكان يكتب مقالات تجمع بين السياسة والثقافة واللغة القريبة من الشعر.. لغة البلبل!

لكنه كان قد عمل قبل الثورة فى عدد من الصحف ومنها « الجمهور المصرى» حيث شارك فى شن حملات قوية ضد الملك والأحزاب الفاسدة والإقطاعيين الذين يستعبدون الفلاحين..

وأتيحت له فرصة للعمل فى الهند فى إذاعتها العربية وعاش هناك عدة سنوات استغرق خلالها فى استكشاف هذه البلاد وثقافتها.. ونتج عن ذلك – فيما بعد – كتاب نادر عن الهند.

وهنا أريد ألا أنسى أن لبلبل الصحافة المصرية ما يزيد على العشرين كتابا تناول فيها تاريخ مصر وفضح فساد الملكية وتاريخ ثورة عرابى وثورة يوليو وغيرها.

وعلمت من تتبعى لشخصية هذا المفكر المتواضع الذى لاحظت أن له مريدين وتلاميذ يلتقون فى شقته الصغيرة ويأتى بعضهم من البلاد العربية للتواصل معه والاستزادة من فكره، إنه واحد من الكتاب القلائل الذين تعرضوا للاعتقال والسجن فى كل العصور من زمن الملك فاروق إلى عبدالناصر..إلى السادات.

فى زمن الملكية عوقب على ما كتبه وقتها، وفى عصر الثورة اعتقل بأمر عبدالناصر خلال أزمة 1954 مع أنه من كبار مؤيدى ثورة يوليو، إلا أنه- وغيره من الكتاب والسياسيين- كانت له ملاحظات على أخطاء وقعت وكان ينبه إلى ضرورة تصحيحها.

وكان منطقه هو أن نقد الثورة هو أحد أهم أسباب استمرارها.

وفى أيام السادات تم اعتقاله خلال حالة الهوس التى وقعت فى 5 سبتمبر 1981 بوضع كل رموز مصر فى السجن. 

■ معركة مع الحكيم

أتذكر الآن أننا كنا فى سنة 1975 نتابع المعركة التى خاضها محمد عودة مع توفيق الحكيم، فقد وضع الحكيم بعنوان «عودة الوعى» كتابًا لانتقاد سياسات جمال عبدالناصر وهاجمه بشدة وأدان أسلوبه فى الحكم.

وكان قد عرض نص الكتاب قبل أن ينشره على بعض من يثق فى تقديرهم ومنهم صديقه محمد عودة. وروى عودة فيما بعد أنه بعد قراءة المخطوطة قال للحكيم إنه من الأفضل ألا ينشر هذا الكتاب لأنه سيعتبر نوعا من مجاراة حملة التعريض بجمال عبدالناصر التى يشارك فيها عدد من الصحفيين والسياسيين المنافقين الذين يتطلعون لرضا الحاكم الجديد أنور السادات، وأضاف إنك بذلك الكتاب تكون قد أسأت للرجل الذى حماك (خلال حملة التطهير التى جرت فى بداية حكم الضباط) من الفصل من منصبك كمدير لدار الكتب بل إنه عزل وزير التعليم الذى وضع اسمك فى كشوف التطهير.

ثم هناك من سيهاجمك بشدة لأنك تكتب هذا النقد الشديد للزعيم بعد رحيله، فأين كان كلامك هذا أثناء وجوده؟

 

 

 

لكن الحكيم انساق لأعداء الثورة ونشر الكتاب فى بيروت، فما كان من محمد عودة إلا أن وضع كتابا يتصدى لادعاءات الحكيم ويرد الاعتبار للزعيم الراحل ويكتب فيه شهادته على عصر جمال عبدالناصر.. ووضع له عنوانا ساخرا هو «الوعى المفقود» متهما توفيق الحكيم بأنه فقد وعيه خلال 18 سنة من حكم عبدالناصر، وعندما استعاده كشف عن نقاط ضعف خطيرة فى منطقه وسلوكه. 

وتعمّد محمد عودة أن ينشر على غلاف كتابه هذه العبارة:

ليس هذا الكتاب ردًا على توفيق الحكيم ولا تحيزا لجمال عبدالناصر ولكنه دفاع عن الشرف السياسى والثقافى لمصر.

وفى الكتاب حلل شخصية توفيق الحكيم ككاتب منعزل عن الحياة العامة يكتب من برج عاجى ويميل إلى العزلة ولا يعرف التواصل مع روح الثورة.

 

وفى الأسبوع المقبل نواصل.