الأربعاء 2 يوليو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

رحلة بحث فى «جراح الطفولة»

هل فكرت يومًا فى الحديث مع «طفلك الداخلى»؟ هل سمح لك بذلك؟



هل هرب منك أو راوغك؟ وإن أمسكت به، هل فهمت لغته؟ أم تهت عنه مرة أخرى وتفاقمت جراح الطفولة، تلك الجراح التى لم ينجُ منها أحد، لتعدد مستوياتها، ولفهمنا غير المكتمل لها فى بعض المراحل.

فهى قد تتخذ أشكالًا متعددة، منها ما قد نعتقد أنه بسيط وعابر، فيمر دون محاولة لفهمه... كتجاهل الكبار للصغار، وخذلانهم، والمقارنة بينهم وبين أطفال آخرين، وغيرها من الأمور التى تحدث كثيرًا دون قصد، نتيجة جهلٍ ما أو سوء تقدير.

«صباح الخير» التقت بالدكتورة آمال عويضة، المتخصصة فى مجال الإرشاد والدعم النفسى، والحاصلة على دكتوراه فى فلسفة الفنون ودبلوم المشورة النفسية، للحديث عن اكتشاف طرق جراح الطفولة والوقوف على سبل مداواتها.. وقدمت روشتتها للتعافى السريع من آثار تلك الجروح.

 

 

 

 

■ فى البداية قلت لها أعط لنا مفهومًا مبسطًا عن جراح الطفولة: ما المقصود بها؟

- ببساطة هى آثار التجارب المؤلمة أو المشاعر المكبوتة أو الأذى البدنى أو النفسى التى قد يكون عاشها الطفل فى سنوات التكوين، ومما لا يعرفه البعض أنها قد تكون منذ لحظة الميلاد حتى مرحلة ما قبل البلوغ.

قد تكون تجارب لم يفهمها الطفل، ولم يجد من يحتويه ليتجاوزها، فقام بتخزينها وكبتها حتى لا يزعج الكبار خوفا عليهم أو خوفا منهم، وتحولت إلى مخاوف وخجل، أو غضب، أو شعور بالنقص وعدم الثقة بالنفس. تكمل: «هذه الجراح تنتقل مع الطفل خلال مراحل عمره المراهقة والنضج».

ليعانى وهو راشد من المشكلات التى تعود جذورها إلى ما كابده من جراح نفسية، لم ينتبه إليها أحد بدعوى أن الطفل لا يفهم ولا يتأثر ولا ينتبه وسينسى.

«تبلورت العديد من الأفكار حول «علاج جراح الطفولة» كاتجاه نفسى وروحى منذ منتصف القرن العشرين. وتطورت على يد عدد من المعالجين النفسيين، وانتقلت من أوروبا لتنتشر فى الولايات المتحدة فى الستينيات والسبعينيات ضمن حركات العلاج الجَوانى ومساعدة الذات «self-help»…

■ هل يصاب بها كل الناس؟

- نعم، تقريبًا يمكن رفع لافتة «لم ينج منا أحد» لأن تلك الندوب جزء من تجربتنا الإنسانية قادمة من مرحلة طفولتنا حيث لم يعش أحد طفولة كاملة بلا نقص أو ألم حتى فى أفضل البيئات حتى لو كان أميرا فى فمه ملعقة ذهبية، لأنه سيواجه لحظات:

تجاهل أو خذلان أو مقارنة، أو فهم خطأ لما حدث تبعا لاستيعابه.

■ وكيف يمكن التعرف إلى آثار تلك الجراح؟

القلق الزائد، العلاقات عير المتوازنة، الصعوبة فى التعبير أو اتخاذ القرار نقد ذاتى قاسٍ سلوك دفاعى أو انسحاب دائم كلها دلالات تشى بوجود جراح تتطلب التعامل الفورى معها.

 

 

 

■ الطفل الداخلى: كيف نتعرّف إليه؟ ولماذا نفشل فى إيجاد صيغة جديدة للدخول إلى عالمه؟

- قالت: الطفل الداخلى هو الجزء الحى بداخلك الذى يمثل مشاعرك الطفولية، هو أنت فى عمر 3 أو 5 أو 7 سنوات بكل ما شعرت به فى وقتها من مشاعر متضاربة ومرتبكة من الفرح، الفضول، الغضب، الخوف، الوحدة، الدونية.. وهو واحد من أهم تجليات حقيبة شخصياتنا التى نحملها فى رحلة الحياة المتمثلة فى مراحل الطفل والمراهق والناضج، ولكل منها أزماته التى لا تنفصل عن مسارنا.

قالت: لكن تتجلى أهمية الطفل الداخلى كونه الأساس الذى يحدد كل ما يعيشه الإنسان لاحقًا، وهو التجلي«الأضعف أو المسكين» الذى تتشكل ذاكرته منذ لحظة استقرار نطفنا فى بطون أمهاتنا وحتى بداية البلوغ.

ويحتفظ هذا الكيان الداخلى فى كل منا بكل الندوب والجروح والمواقف المربكة التى تترك آثارها على سلوكياتنا.

تتجمع تلك الحصيلة بسبب رغبة الطفل فى الدخول إلى عالم الكبار (ممثلا فى الأب والأم فى البداية) وكسب ودهم لدرجة تتشوه معها ملامحه النفسية من أجل إرضاء الآخرين أو ما يقال عنه people pleaser.

■ كيف نتعرف إلى طفلنا الداخلى؟

- راقب مشاعرك وقت الغضب، الانهيار، أو الحزن غير المبرر.. اسأل نفسك: «كم كان عمرى أول مرة شعرت بهذا الإحساس؟».

راجع ذكريات الطفولة، خاصة أول سبع سنوات. وحتى نهاية المرحلة الأساسية، تتبع أنماطك المتكررة فى العلاقات التعلق، التجنب، الخوف من الهجر.

الكاتبة والمعالجة النفسية الكندية ليز بوربو والمتخصصة فى مجال التنمية الذاتية والشفاء العاطفى.. قدمت واحدة من أشهر الإسهامات الحديثة لفهم جراح الطفولة وتأثيرها على الشخصية والسلوك.. حيث رأت أن: كل إنسان يحمل جرحًا أو أكثر من جراح الطفولة الخمسة.

هذه الجراح تشكّل «قناعًا» نفسيًا وسلوكيًا نحتمى به هذه الجروح تبدأ من الرفض وقناعه الهروب، الهجر وقناعه التعلق أو الاحتياج الزائد والخيانة وقناعها السيطرة والهيمنة والإذلال وقناعه الخضوع وخدمة الآخرين، والظلم وقناعة التصلب والمثالية الزائدة، لاحظى أن القناع يحمى لكنه يُبعدنا عن حقيقتنا، وربطت ليز بين المشاعر والأمراض الجسدية وجراح الطفولة. تناولت ذلك فى كتابها: «أنصت إلى جسدك» حيث ربطت فيه بين المشكلات الجسدية والجروح النفسية فى مزج بين العقل، الجسد، والطاقة، مقتربة من تأويلات المتحدثة الأمريكية لويز هاى التى كان لها إسهامات فى فهم دلالات الأمراض وعلاقتها بتجارب الطفولة، وجون برادشو الذى استخدم مصطلح «الطفل الداخلى المجروح».

■ إذن كيف نتواصل مع طفلنا الداخلى؟

عبر الكتابة: اكتب لها أو له رسالة واسأله «عامل إيه؟ خايف من إيه؟ محتاج إيه؟»، ثم عبر التأمل: تخيل نفسك بملامحك الصغيرة، بصوت هادئ، اسأله وتحدث معه ثم عبر اللعب: مارس كل ما كنت تحبه طفلا (الرسم، الرقص، الحواديت)، وعليك أن تعترف بألمه بدل إنكاره، وعليك أن تقبله كما هو دون محاولة تغييره أو لومه، واجلس معه بصبر وخصص له وقتًا ومساحة وعليك أن اسمعه دون كسر بالنصائح واللوم والسخرية، أكد له على وجودك بجواره الآن لحمايته.

■ هل يمكن أن نفشل خلال رحلة البحث عن طفلنا الداخلى؟!

- نعم، يحدث ذلك بالتعجل أو تجاهل المخاوف، أو لو تعاملنا معه بالعقل والحسابات لا بالمشاعر والفهم والصبر ودفء القلب أو إذا أعدنا تفعيل الجرح بدل تطمينه.

لكن يمكن العودة ثانية لكسب ثقته واستعادة الحوار مرة أخرى، فالطفل الداخلى عندما يخاف أو يغضب ينكمش إلى الداخل، ولكنه يعود ليظهر إذا شعر بالأمان».

عن واحد للثانى

 

 

 

■ هل تختلف تأثيرات جروح الطفولة من طفل إلى آخر؟ وهل يلعب الجنس (ذكر/أنثى) دورًا فى اختلاف التأثر؟

- نعم، تختلف تأثيرات جروح الطفولة من طفل إلى آخر لأسباب تتعلق بالبيئة داعمة وماذا كانت الأسرة داعمة أو قاسية، والطبع الشخصى وماذا كان الإنسان حساس أو مقاوم، (طفل حساس أو مقاوم).

كما أن ترتيب الطفل بين أخواته لها بعض التأثير.

وأيضا شدة الجرح وتكرارها، ووجود طرف داعم وقت الأزمة، وبالطبع يختلف الأمر من المرأة للرجل، لأن التربية تختلف غالبًا حسب النوع فالذكر يُمنع من التعبير عن الخوف أو البكاء، والأنثى تُجبر على الطاعة أو الكبت.

فالذكر يُشجع على السيطرة والكتمان، الأنثى تُربّى على الرضا حتى مع القهر، هذا يغير طريقة استقبال الجرح والتعامل معه، ويصنع أنماطًا من الدفاع أو التهرب أو التمرد.

■ كيف يكتشف الأهل جراح الطفل؟

- لو كانوا واعين، يلاحظون علامات مثل: انسحاب الطفل وصمته، أمراض متكررة وخاصة الجلدية إضافة إلى ظهور نوبات غضب وتحطيم أو صمت طويل أو خوف دائم وقد يلاحظ مبالغة فى طلب الاهتمام أو فى المثالية وكلام مثل: «أنا مش محبوب» أو «أنا السبب».

هنا ينصح بعدة خطوات، الأولى عدم السخرية أو التبرير دون تقليل أو مبالغة، والثانية طرح أسئلة لطيفة، اللعب، الرسم، أو سرد القصص وفى الحالات الصعبة ينصح بالتواصل مع متخصص أو إخصائى اجتماعى

■ سألتها: فى حال غياب الوعى وعدم الاكتشاف ما هى التأثيرات الجانبية لهذه الجراح المطمورة على نفسية الرجل أو المرأة مستقبلًا؟

- وأجابت: تكبر وتتحول إلى مشاكل فى العلاقات تعلق زائد، تجنب، خوف من الخيانة، وقد تظهر أعراض جسدية: كالأمراض المناعية، صداع مزمن، تعب دائم نقد ذاتى أو احتقار للنفس، وقد تظهر إدمانات بأنواعها مثل طعام، ألعاب علاقات، عمل، اكتئاب أو نوبات قلق.

وقد تحدث حالة انفصال داخلى يشعر الرجل منها أو المرأة أن شيئًا ناقصًا أو أنهم «غير حقيقيين» رغم النجاح الخارجى.

■ ما هى أكثر الجراح جراح الطفولة من خلال تجربتك العلمية والعملية؟

- الأكثر شيوعًا فى مجتمعاتنا العربية من واقع التجربة العملية والنفسية هى مشاعر النبذ العاطفى داخل الأسرة، فالطفل لا يُحتضن، لا يُسمع، لا يُفهم. وتتكرر على مسامعه أفعال أمر مثل: «عيب، اسكت، أنت بتبالغ»، والعنف الأسرى، جسديًا أو نفسيًا لما يضرب الضرب، الشتم، المقارنة، التحقير، وهناك التنمر المدرسى دون حماية حيث لا يُصدق الطفل، ويُجبر على «التحمل»، والتحرش الجنسى: خاصة داخل الدوائر القريبة، ويُدفن فى السر والخجل والخزى وهناك الرفض والتفضيل بين الإخوة، وشعور الطفل بأنه غير مرئى أو أقل قيمة.

■ كيف نكتشف علّة ذواتنا؟ وخاصة فى مجتمعاتنا التى قد لا تعطى للطب النفسى أهميته؟

- على كل منا أن يراقب أكثر لحظة انكسر فيها: أمام من؟ لماذا؟ ماذا شعرت؟

عليه أن يسأل: ما القصة المتكررة فى علاقاتى؟، عليه أن راجع صدى جملة: «أنا دايمًا...» أو «عمرى ما...»، ومن آن لآخر عليه أن يحكى قصة طفولته كما يتذكرها، ثم يعيدها كمايتمنى الطفل أن تكون.

 

 

■ ما هى روشته التخطّى أو التجاوز؟ أو ما هى الخطوات التى يمكن أن تساعدنا على التعافى وتجاوز هذه الجراح؟

- الشفاء يبدأ بالاعتراف، الملاحظة، والفهم، لاحظى أن الجسد يعكس الجراح عبر الأمراض والمظاهر الخارجية وعالم النفس السويسرى كارل يونج الذى انتبه إلى الطفل الداخلى بصورة أكثر إنسانية، ورأى أن التعافى يبدأ من إعادة العلاقة مع الطفل الداخلى الذى اعتبره عنصرًا مركزيًا فى العلاج النفسى باستخدام الخيال، التأمل، الرسم، الحوار الداخلى، وإعادة سرد القصة كأدوات. 

وكما أفادنا عالم النفس النمساوى ألفريد إدلر، فى تحليله لتأثير نوع الطفل وترتيبه بين إخوته وأن القوة الدافعة فى حياة الإنسان هى الشعور بالنقص والتى تبدأ منذ الطفولة وتنعكس على علاقته لاحقا بالأسرة والعمل والأصدقاء.

إذن على كل منا أن يسمح بالاعتراف، لا شفاء بلا اعتراف بالجُرح، لا تسكت الصوت الداخلى، وعليك العثور على شاهد آمن: معالج، مرشد، مجموعة دعم، شخص يصدقك ويسمعك ولا يهاجمك ولا يحكم عليك ولا ينبذك أو يعاقبك بالصمت أو التجاهل.

- تحدث مع طفلك الداخلى يوميًا، اسأله: «ما الذى احتجته ولم تحصل عليه؟»، وخصص وقتًا للكتابة والتأمل: اكتب ما قيل لك فى الصغر، وراجع وصدفة واستبدلها برسائل ترممك وتعيد إليك الثقة والمصالحة مع طفلك.

لا بد من عدم الاستعجال فالتعافى ليس خطًا مستقيمًا بل موجات من ألم ووعى وراحة فى النهاية.