هوس العبقرية

د. هانى حجاج
لا شك أن حياة مارى كورى كانت ملهمة فى الواقع، فقد كانت نادرة كوحيد القرن الأسطورى فى مجال العلم.
جاءت من أسرة فقيرة وعملت لثمانى سنوات لتوفر النقود لتدرس فى السوربون، وتغلَّبت على صعاب تفوق الجبال.
وفى سنة 1893 كانت مارى كورى أول سيدة تحصل على درجة علمية ثانية فى الرياضيات، وكانت أول سيدة تحصل على لقب أستاذ فى السوربون، وأول سيدة لا تحصل فقط على جائزة نوبل واحدة بل اثنتين، الأولى فى الفيزياء بمشاركة زوجها وهنرى بيكيريل لاكتشافهم النشاط الإشعاعي، أما الثانية فجاءت بعد ثمانى سنوات فى الكيمياء لفصلها عنصرى البولينوم والراديوم.

وهى أول سيدة يتم انتخابها فى الأكاديمية الفرنسية للطب، عمر هذه الأكاديمية أكثر من 224 عامًا فى ذلك الوقت.
وبالإضافة لنجاحها المذهل فقد تمكنت من تربية أطفالها تربية قويمة علمية عظيمة.
والآن يصدر: (هوس العبقرية، الحياة السرية لمارى كوري) فى سيرة ذاتية ملهمة كتبتها باربارا جولد سميث واحدة من الكتاب الأعلى مبيعاً وقد حصلت على درجة الدكتوراه أربع مرات وجائزة إيمى مرتين، وترجم الكتاب كل من البروفسور فتح الله الشيخ والبروفسور أحمد عبد الله السماحى ضمن مشروع كلمة عن دار العين للنشر فى برنامج تتبناه هيئة أبو ظبى للثقافة والتراث.
يقع الكتاب فى 21 فصلاً تجمع بين التوثيق التاريخى والسرد الأدبى للحقائق العلمية، مما حدا بالهيئة المصرية العامة للكتاب إعادة نشره لأهميته البالغة بنقل هذه القصة العظيمة للقارئ العربى فى مشاهد منفصلة يمكنه بسهولة أن يدرك اتصال بعضها ببعضها الآخر، لتكون مجموعة قيم نبيلة متماسكة ذات معنى فى النهاية.
ولدت (ماري) فى العاصمة البولندية (وارسو) عام 1867 وكان اسمها هو (مارى سكلودفسكا) لأنها لم تكن قد التقت بزوجها بالطبع!
بعد عام 1891 ذهبت إلى فرنسا وبدأت فى الانتظام بمحاضرات قسم العلوم بجامعة السوربون بباريس، ولم تكون ظروف الحياة رغدة بالنسبة لها، لقد عاشت حياة مقترة أوقفتها على الدراسة فقط، وكان دخلها هو أربعين روبيلاً فى الشهر وهو ما كانت تتقاضاه نظير عملها كمربية فى بولندا.
ومن هذا الأجر الذى كان يعنى ثلاث فرنكات كل يوم كانت تأكل وتلبس وتشترى الكتب وتدفع مصروفات الجامعة. كانت حياة جد واجتهاد منذ البداية.
عام 1849 التقت بعالم فرنسى غير معروف اسمه (بيير كوري)، تزوجت منه وحملت اسمه، وعاش الاثنان معاً فى العاصمة الفرنسية (باريس)، وعملا معاً فى معمل صغير حقير قليل الإمكانيات وتعرَّفا على (هنرى بيكيريل) الذى اكتشف مادة (اليورانيوم) وهو مادة مشعة ترسل طاقة لا تُرى بالعين المجردة.
هذه الأشعة قادرة على اختراق حتى الحواجز السوداء والمعادن، لقد أجرى (بيكيريل) تجاربه الأولى على ورقة مطلية بالقار وتحتها لوح معدني، فوجد أن إشعاعات المادة تنفذ لتؤثر فى طبيعة المعدن، فاستنتج أنه لا بد أن تكون فى مادة القطران مادة أخرى بخلاف (اليورانيوم).
وكانت هذه هى البداية بالنسبة لمارى كورى وزوجها، إذ أسرع إليها (بيكيريل) وصارحهما باكتشافه، وبدأت (ماري) تتساءل عن طبيعة هذه الأشعة العجيبة التى لها القدرة على اختراق المواد الأخرى فى حين أن الأشعة العادية للضوء لا تخترقها.

وراحت (مارى كوري) تجرى تجاربها على العناصر المعروفة بقدرتها الإشعاعية حتى ذلك الحين وهى (الثوريوم) و(اليورانيوم). وكان التحدى الماثل أمامها هو أى عنصر أقوى من هاتين المادتين استطاع النفاذ عبر اللوح القطران الأسود؟!
للإجابة على هذا السؤال الذى حيّرها طويلاً، كان لابد لـ(مارى كوري) أن تجرى المزيد من التجارب تحت متابعة زوجها (بيير) الذى لم تنكر فضله أبدًا فى معاونتها وانضمامه إليها لمساعدتها منصرفًا عن بحوثه الخاصة التى كان يجريها فى المدرسة التى كان يعمل بها، ولأن اثنين أفضل من واحد كما يقولون، فقد تعاون العقلان معًا فى الكشف عن طبيعة هذه المادة المجهولة.
ولكنهما كانا فى حاجة إلى كميات كبيرة من القطران لتحليلها، وإلى معمل كامل من الأجهزة والآلات، من ثم استأذنا ناظر المدرسة التى كان يعمل بها (بيير كوري)، فسمح لهما الأول باستعمال غرفة فى فناء المدرسة لم يكن بحاجة إليها.
لكن المشكلة ظلت كما هي: من أين لهما بكميات القطران التى كانا بحاجة إليها؟ خاصة أن القطران كانا باهظ الثمن فوق ما يطيقانه وهما الزوجان الفقيران!
من حسن حظهما أن تناهى إلى مسامعهما أن الحكومة الأسترالية لديها أطنان من القطران لم تعد فى حاجة إليها لأنها قد استخرجت منها كل ذرة من اليورانيوم وأصبح الباقى هو نفاية زائدة عن الحاجة، إذ أصبح القطران فى هذه الحالة عديم القيمة بعد انتزاع اليورانيوم منه.
من ثم تعاقد الزوجان على شرائه، وكانت الصفقة كالآتي: يدفع (بيير) و(مارى كوري) نفقات الشحن فقط فى مقابل أن يخلصا الأستراليين مما لديهم من القطران عديم النفع، فقد كانت الحكومة الاسترالية تتمنى أن تتخلص من هذه (الفضلات) بأية وسيلة!

مضت (مارى كوري) بمعاونة زوجها فى غبطة تبدأ تجاربها الجادة بتنقية القطران ثم وضعه على النار الحامية ليصل إلى درجة الغليان فيتحول إلى البخار، ويمكنك أن تتخيل الزوجين يقفان فى المعمل وقد اسودت ثيابهما ووجهيهما وعيناهما تدمعان من دخان القطران الذى ملأ المعمل، وبعد تصفية البخار الذى خنقهما لم تبق إلا بعض قطرات من كل هذا القطران، فأسرعت (ماري) تحتفظ بها فى إحدى أنابيب الاختبار الزجاجية، وفى هذا الأمر كتبت (مارى كوري) تقول: «وصل بى الأمر أن اشتغلت بمقدار من المواد يبلغ وزنه عشرين كيلو جرامًا فى وقت واحد، مما اضطرنى إلى ملء الحجرة بأوعية السوائل والرواسب، ولقد كان حمل تلك الأوعية وصب السوائل منها، وتحريك المواد المغلية منها فى حوض الصهر ساعات طويلة عملًا مضنيًا بحق!؟.. ثمانى سنوات بأكملها!..ولكن جزاء العرق مجز دائماً لقد توصلت (ماري) وزوجها إلى عنصرين لا عنصرًا واحدًا يتميزان بالنشاط الإشعاعي!
فى يوليو سنة 1898 أعلن الزوجان (ماري) و(بيير كوري) اكتشافهما لأحد هذين العنصرين.. وهو عنصر (البولونيوم). أطلقت (ماري) هذا الاسم عليه تيمناً باسم بلادها(بولندا)! فى ديسمبر عام 1898- نفس السنة التى تم إعلان اكتشاف (البولونيوم) فيها- أعلن الزوجان كشفهما للعنصر الآخر، وأطلقا عليه اسم (الراديوم) أى العنصر المشع ذلك أنه ذو نشاط إشعاعى قوى جدًا، إذ يزيد أكثر من مليون ضعف على القوة الإشعاعية لليورانيوم الذى سبق أن اكتشفه زميلهما (هنرى بيكتريل)، وعلى هذا الكشف نال الثلاثة جائزة (نوبل). ورغم أن الزوجين قد عرفا بوجود الراديوم إلا أنهما قضيا أربعة أعوام إضافية ليتمكنا من استخراج حبات قليلة من أملاح الراديوم وهى عبارة عن بلورات دقيقة جدًا، بيضاء اللون، تنير فى الظلام.
هذه المادة شديدة الخطورة إذ هى قادرة على اختراق المواد الأخرى بما فيها المعادن ولذلك فتصنع الأوانى الحاوية لها من الرصاص لأنها غير قادرة على النفاذ منه.. وتسبب هذه المادة حروقًا بالجلد وقرحًا شديدة به.
وهذا ما أصاب الزوجان (كورى)نتيجة أبحاثهما على الراديوم!.. الراديوم الآن يدخل فى أساسيات علاج السرطان (أعاذنا الله منه)، إنه يتمكن من القضاء على الخلايا السرطانية وإيقاف نموها، ولم يكن الراديوم المنتج وقتها نقيًّا بما يكفى، إلا أن (مارى كوري) تمكنت من إنتاج جرام من الراديوم النقي، حازت عليه جائزة نوبل للمرة الثانية عام 1911 وهذه هى المرة الوحيدة التى تمنح فيها هذه الجائزة العظيمة لأى رجل أو امرأة مرتين فى العالم!