
توماس جورجسيان
واشنطن ربيع ٢٠٢٥.. والكل يسأل وينتظر الإجابة!
أين كنا؟.. وأين صرنا؟ يتساءل الأمريكى بشكل أو آخر حول ما يجرى فى البلاد. ولا شك أن المرء أينما كان فى العالم وهو يرى أمريكا وما يجرى فيها يتساءل أيضًا بنفس الحيرة والقلق حول ما يراه ويعايشه الآن وما قد يشهده ويعانى منه مع مرور الأيام.
منذ عام، كانت الجامعات الأمريكية موضع اهتمام وغالبًا موضع تقدير وهى تشهد المظاهرات والاعتصامات الطلابية المناهضة لحرب غزة ووحشية إسرائيل والتى كانت تطالب بحق الفلسطينيين فى تقرير مصيرهم. وبالطبع تعرضت تلك الجامعات أيضا لانتقادات شديدة اللهجة بسبب كل هذه المواقف الطلابية.
هذا العام ومع بداية عهد ترامب تتعرض هذه الجامعات الأمريكية ذاتها لتهديدات وعقوبات مالية واقتصادية وبحثية من جانب الإدارة الأمريكية. من قطع لمساهمات حكومية فى الأبحاث والدراسات وصولا لمنع السماح لها بقبول طلاب أجانب. وهذه المعركة الشرسة المستمرة هذه الأيام تستهدف أساسًا تركيع الجامعات وقبولها لشروط تعديل وإصلاح (كما وصفتها الإدارة) من أجل مواجهة معاداة السامية فى الجامعات وتغيير مناهج التدريس الخاصة بالشرق الأوسط.
ومنذ أيام مرت 5 سنوات على ما وصف حينذاك بالغضب الأسود. بعد أن لفظ جورج فلويد الأمريكى الأسود أنفاسه الأخيرة ورقبته تتعرض لضغط مميت من ركبة رجل الأمن الأبيض. أما فى وقتنا الحالى (كما رصدت صحيفة نيويورك تايمز) ومع الزمن الترامبى فإن اليمين الأمريكى يسعى لإعادة مضمون وشكل ما يتم حكيه حول ما حدث لجورج فلويد وأثار غضب الكثيرين. أى كيف تصف من جديد المسيرات الغاضبة التى حركت العالم كله. والحركات السوداء التى نظمت وحركت هذا الغضب العارم. وهناك محاولات لطمس الحقائق وتشويه ما حدث من حركة احتجاج. كيف أن اشاعة الفوضى واستهداف رجال الأمن كان فى رأيهم هو الهدف الرئيسى. ولم يتردد بعض الأصوات اليمينية البارزة أن تطالب بأن يتم العفو عن الضابط المدان بالقتل والإفراج عنه. وفى الوقت نفسه يتم تفادى الحديث عن العنصرية بتبعاتها الاقتصادية والسياسية وقد أصبح هذا الإنكار يلفت الانتباه ويثير الانزعاج والغضب.
وطالما أتابع ما يجرى فى المشهد الأمريكى.. الواشنطنى على وجه الخصوص أقرأ أكثر من تناول للقاء ترامب بنظيره من جنوب أفريفيا رامافوزا فى المكتب البيضاوى بالبيت الأبيض. لقاء غريب وعجيب ومعيب وفيه من الإحراج الكثير وهذا لم يكن بالأمر المنتظر فى لقاء مع رئيس أو حاكم دولة أخرى. كما ذكر دانا ميلبانك فى مقال له فى صحيفة واشنطن بوست.وكلما تأملت كلمات ترامب فى ذاك اللقاء مثلما كان الأمر فى لقاء زيلينسكى كلما تيقنت أن العلاقات الدولية والدبلوماسية والصفقات المتبادلة أصبحت لها تعريفات ومفاهيم ومعانى خاصة بالرئيس الأمريكى الحالى.. وبه وحده.

وفى أجواء عقد الصفقات أينما كانت ما لفت نظرى تفاصيل ما جرى بين ترامب وعائلته وأصحاب القرار فى هانوى عاصمة فيتنام. وذلك بعد خمسين عاما من نهاية حرب فيتنام. وبالطبع شعوب العالم شهدت وعايشت تفاصيل هذه الحرب والحركات المناهضة لها. ذكرت صحيفة نيويورك تايمز أن ايريك ترامب ثانى أولاد الرئيس كان مؤخرا فى فيتنام لبدء مشروع مجمع الجولف بالقرب من العاصمة تقدر الأموال المستثمرة فيه بـ1.5 مليار دولار. بالاضافة إلى ناطحة سحاب ترامب تاور بالقرب من مدينة هوشى منه.
وذكر التقرير أن مشروعات استثمارية أخرى من جانب آل ترامب فى طريقها إلى فيتنام. كما أن بعض العوائق الادارية المحلية قد تم ازالتها من أجل تمرير مشروعات ترامب. وكل ذلك من أجل صفقة تعامل أفضل مع فيتنام فى الحرب التجارية الدائرة الآن من جانب واشنطن. خاصة أن التلويح بالتعريفات الجمركية من جانب ترامب تجاه فيتنام وصل بالنسبة إلى 46 فى المائة. وبالطبع التنافس ما بين الصين وأمريكا فى التعامل التجارى مع فيتنام يزداد حدة كل يوم. وبلا شك التساؤلات مستمرة حول ما قد يحدث فى الشهور المقبلة.
المشهد الأمريكى بتغيراته وتقلباته ومفاجآته لا يلفت فقط الأنظار بل يحير العقول ويربكها.وهذا هو ما يحدث لكل من يتعامل مع واشنطن وترامب هذه الأيام.
محطة تأمل.. لعل وعسى
لا يمر يوم دون أن يلفت نظرى ويجذب اهتمامى مقال أو تحقيق صحفى فى الإعلام الأمريكى يتناول أهمية وضرورة تحقيق مواجهة ضد ما يأتينا ويحاصرنا عبر السوشيال ميديا.. بكل أخواتها!
المحاولات المتواصلة لمواجهة طوفان التدفق المعلوماتى (أقصد الـData) مستمرة. وأيضا النقاش حول جدوى وفاعلية تبنى سبل المقاومة لم يتوقف. الخطر قائم وقادم وكاسح لا يستطيع صده إلا من له إرادة ورغبة وقدرة على الاختيار واتخاذ القرار واستخدام عقله فى قبول أو رفض المتدفق والمتاح من المعلومات والأكاذيب التى تحاصرنا نهارًا وليلاً على مدار الساعة.
الكل يشكو من الهاتف الذكى أو الانترنت وسنينه إلا أن الكل أدمن ما وصفناه بالسوشيال ميديا. ومن ثم لا يستطيع التحرر من جبروته وهيمنته على ما نعرفه أو ما نفعله أو ما نختاره أو نرفضه.
إنه الانصياع الأعمى رغم تكرار قولنا بأننا نحن الذين نختار ما نريد أن نعرفه عما يحدث فى العالم وهل ما نريد أن نعرفه هو بالفعل ما يجب أن نعرفه.. أسئلة عديدة تحاصرنى وأنا أرى أن ما يتابعه كل من حولى يعتمد أولا وأخيرا على شاشة الهاتف الذكى واختيارات الذكاء الاصطناعى. وما عليك إلا أن تأكل وتشرب ما يقدم لك من وجبات جاهزة ومعلبة تجذب الانتباه وتدغدغ الخيال وتأسر النفوس.
لا شك أن التدقيق فى المعلومات والكشف عن الأكاذيب والتصحيح لما تم نشره وغربلة ما يتم بثه. هو المطلوب الآن. والأهم تحدى هذا الكم الهائل من الإغراق الذى يستهدف فى المقام الأول شل قدرة المتلقى على التمييز أو الاختيار.. وهلم جهلا.